إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد: 

رَوَى بَعْضُ أَصْحَابِ السُّنَنِ وَالصِّحَاحِ عَنْ أَنَسٍ وَغَيْرِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا لَا كَفَّارَةَ لَهَا إِلَّا ذَلِكَ)، فَفِي هَذَا الحَدِيثِ بَيَانُ أَنَّ الصَّلَاةَ الْمَفْرُوضَةَ تَبْقَى فِي ذِمَّةِ الْمُكَلَّفِ بِهَا الَّذِي تَرَكَهَا، وَلَا يَجُوزُ وَلَا يُجْزِئُ أَنْ يَقْضِيَهَا عَنْهُ غَيْرُهُ فِي حَيَاتِهِ أَوْ بَعْدَ مَمَاتِهِ، فَإِنْ نَامَ الشَّخْصُ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ وَأَفَاقَ بَعْدَ خُرُوجِ وَقْتِهَا فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَلَكِنْ عَلَيْهِ القَضَاءُ وُجُوبًا، فَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُم مِنْ أَصْحَابِ السُّنَنِ وَالصِّحَاحِ وَالْمَسَانِيدِ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (أَمَا إِنَّهُ لَيْسَ فِيَّ النَّوْمِ تَفْرِيطٌ، إِنَّمَا التَّفْرِيطُ عَلَى مَنْ لَمْ يُصَلِّ الصَّلَاةَ حَتَّى يَجِيءَ وَقْتُ الصَّلَاةَ الْأُخْرَى) الحَدِيثَ، فَيُفْهَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ مَنْ أَدْرَكَ الوَقْتَ وَلَم يُصَلِّهَا مُتَعَمِّدًا إِخْرَاجَهَا عَنْ وَقْتِهَا لِغَيْرِ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ فَهُوَ ءَاثِمٌ وَاقِعٌ فِي مَعْصِيَةٍ مِنْ أَكْبَرِ الكَبَائِرِ، وَفِي الحَدِيثِ دَلِيلٌ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الشَّخْصِ أَنْ يَسْتَعْمِلَ ءَالَةً كَالْمُنَبِّهِ لِيَسْتَيْقِظَ لِأَدَاءِ الصُّبْحِ وَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنْ لَم يُدْرِكْ مِنَ الوَقْتِ شَيْئًا ثُمَّ قَضَاهَا بَعْدَ أَنِ اسْتَيْقَظَ وَقَدْ خَرَجَ وَقْتُهَا.
 
قَالَ السُّيُوطِيُّ فِي الأَشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ مَا نَصُّهُ (وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَنَامَ قَبْلَ الوَقْتِ وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ نَوْمَهُ يَسْتَغْرِقُ الوَقْتَ، لَمْ يَمْتَنِعْ عَلَيْهِ ذَلِكَ، لِأَنَّ التَّكْلِيفَ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ بَعْدُ، وَيَشْهَدُ لَهُ مَا وَرَدَ فِي الحَدِيثِ أَنَّ امْرَأَةً عَابَتْ زَوْجَهَا بِأَنَّهُ يَنَامُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَلَا يُصَلِّي الصُّبْحَ إِلَّا ذَلِكَ الوَقْتَ فَقَالَ إِنَّا أَهْلُ بَيْتٍ مَعْرُوفٌ لَنَا ذَلِكَ (أَيْ يَنَامُونَ مِنَ اللَّيْلِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ) فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِذَا اسْتَيْقَظْتَ فَصَلِّ) وَأَمَّا إِيقَاظُ النَّائِمِ الَّذِي لَمْ يُصَلِّ، فَالأَوَّلُ (وَهُوَ الَّذِي نَامَ بَعْدَ الوُجُوبِ) يَجِبُ إِيقَاظُهُ مِنْ بَابِ النَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَأَمَّا الَّذِي نَامَ قَبْلَ الوَقْتِ فَلَا، لِأَنَّ التَّكْلِيفَ لَم يَتَعَلَّقْ بِهِ، لَكِنْ إِذَا لَمْ يُخْشَ عَلَيْهِ ضَرَرٌ فَالأَوْلَى إِيقَاظُهُ لِيَنَالَ الصَّلَاةَ فِي الوَقْتِ).
وَقَالَ البَّنَّانِيُّ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى شَرْحِ الزُّرْقَانِيِّ عَلَى مُخْتَصَرِ خَلِيلٍ مَا نَصُّهُ (وَلَا إِثْمَ عَلَى النَّائِمِ قَبْلَ الوَقْتِ).
 
وَقَدْ شَذَّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُجَسِّمَةُ العَصْرِ الوَهَّابِيَّةُ، فَجَاءَ فِي مَا يُسَمَّى فَتَاوَى اللَّجْنَةِ الدَّائِمَةِ فِي الفَتْوَى (15136) مَا نَصُّهُ (يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَفْعَلَ الأَسْبَابَ الَّتِي تُعِينُهُ عَلَى الاسْتِيقَاظِ مِنَ النَّوْمِ مُبَكِّرًا وَوَضْعُ الْمُنَبِّهِ أَوِ الطَّلَبُ مِمَّنْ يَسْتَيْقِظُ مُبَكِّرًا أَنْ يُوْقِظَهُ لِصَلَاةِ الصُّبْحِ) وَهَذِه فَتْوًى شَاذَّةٌ مُصَادِمَةٌ لِحَدِيثِ (لَيْسَ فِيَّ النَّوْمِ تَفْرِيطٌ) السَّابِقِ الذِّكْرِ وَلِأَقْوَالِ الفُقَهَاءِ الْمُعْتَبَرِينَ كَمَا بيَّنَّا.
 
وَكَمَا أَنَّهُ يَجِبُ قَضَاءُ الصَّلَاةِ عَلَى مَنْ فَاتَتْهُ بِعُذْرٍ فَكَذَلِكَ يَجِبُ قَضَاؤُهَا عَلَى مَنْ تَرَكَهَا عَامِدًا بِلَا عُذْرٍ شَرْعِيٍّ، وَفِي هَذَا قَالَ الإمَامُ الكَبيرُ الْمَازِرِيُّ الْمَالِكِيُّ فِي شَرْحِ التَّلْقِينِ مَا نَصُّهُ (اتَّفَقَ جَمَاعَةُ الفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ الْمُتَعَمِّدَ لِتَرْكِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ قَضَاؤُهَا).
 
وَقَالَ ابْنُ بَطَّال فِي شَرْحِهِ عَلَى البُخَارِيِّ مَا نَصُّهُ (وَفِي هَذَا الحَدِيثِ يَعْنِي حَدِيثَ (مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ) رَدٌّ عَلَى جَاهِلٍ انْتَسَبَ إِلَى العِلْمِ وَهُوَ مِنْهُ بَرِيءٌ زَعَمَ أَنَّهُ مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ عَامِدًا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ إِعَادَتُهَا، وَاحْتَجَّ بِأَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا) وَلَمْ يَذْكُرِ العَامِدَ فَلَمْ يَلْزَمْهُ القَضَاءُ وَإِنَّمَا يَقْضِيهَا النَّاسِي وَالنَّائِمُ فَقَطْ، وَهَذَا سَاقِطٌ مِنَ القَوْلِ يَؤُولُ إِلَى إِسْقَاطِ فَرْضِ الصَّلَاةِ عَنِ العِبَادِ، ثُمَّ قَالَ وَقَدْ أَجْمَعَتِ الأُمَّةُ عَلَى أَنَّ مَنْ تَرَكَ يَوْمًا مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ عَامِدًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ قَضَاؤُهُ فَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ ذَلِكَ).
 
ومن مسائل أبي الوليد ابن رشد القرطبي (المتوفى 520هـ)، هل تقضي الصلاة المتروكة عمدا؟
خوطب الفقيه الإمام الحافظ الأوحد قاضي الجماعة بقرطبة أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد رضي الله عنه من مدينة المرية حرسها الله بمسألة سئل عنها ونصها، الجواب رضي الله عنك مع الرغبة إلى فضلك أن تقف على هذا السؤال، وتنظره فقد وقع فيه ما أوجب الكشف عنه وذلك أبقاك الله، ما تقول في الرجل العاصي التارك للصلاة المفروضة عامدا حتى خرج وقتها، هل تجب على تاركها عمدا إعادتها، واجبا أم استحبابا؟ وإن كان يجب عليه ذلك فرضا واجبا، هل يكون ذلك بالأمر الأول أو بأمر ثان مبتدأ؟ وإن كان بأمر ثان، كما ذكر بعض الفقهاء، فبين صفته، والدليل على وجوبه، وإن كان لا يوجد، بينه لنا أيضا، يأجرك الله، ولقد قال بعض من ناظر في هذه المسألة إن النبي صلى الله عليه وسلم قضى الصلاة يوم الوادي بعدما طلعت الشمس، ويوم شغله المشركون عن صلاة الظهر والعصر بعد غروب الشمس، هل يقال في الجميع قضى النبي صلى الله عليه وسلم أو أداها؟ وبين لنا ما يجب في قول من قال قضى النبي عليه السلام إن كان يجب عليه شيء، أم لا، وفسر لنا الجميع نوعا نوعا، وفصلا فصلا، وما يجب في ذلك، فهذا أمر قد وقع، وأحببنا الوقوف على مذهبك على حقيقته، مَانّاَ متفضلا، والله يأجرك، ويحسن جزاءك.
فأجاب، أدام الله توفيقه وتسديده، بجواب نصه (تصفحت أرشدنا الله وإياك، سؤالك ووقفت عليه، ومن نام عن الصلاة أو تركها ناسيا لها أو متعمدا لعذر أو لغير عذر حتى خرج وقتها فعليه أن يصليها بعد خروج وقتها فرضا واجبا ولا يسعه تأخيرها عن وقت ذكره إياها إن كان أنْسِيهَا ولا عن وقت قدرته عليها إن كان تركها لعذر غلبه عليها، وأما إن كان تركها متعمدا لتركها متهاونا بها دون عذر غلبه عليها فهو عاص لله عز وجل في تأخيرها عن وقتها وفي تأخيرها بعد وقتها بما أخرها وهذا كله ما لا اختلاف فيه بين أحد من علماء المسلمين….) إلخ.
 
وَقَالَ ابْنُ دَقِيقِ العِيْدِ فِي الإِحْكَامِ مَا نَصُّهُ (وُجُوبُ القَضَاءِ عَلَى العَامِدِ بِالتَّرْكِ مِن طَرِيقِ الأَوْلَى، فَإِنَّهُ إذَا لَم تَقَعِ الْمُسَامَحَةُ مَعَ قِيَامِ العُذْرِ بِالنَّوْمِ وَالنِّسْيَانِ فَلَأَنْ لَا تَقَعَ مَعَ عَدَمِ العُذْرِ أَوْلَى).
 
وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي الْمَجْمُوعِ (أَجْمَعَ العُلَمَاءُ الَّذِينَ يُعْتَدُّ بِهِم عَلَى أَنَّ مَنْ تَرَكَ صَلَاةً عَمْدًا لَزِمَهُ قَضَاؤُهَا، وَخَالَفَهُم أَبُو مُحَمَّدٍ عَلِيُّ بْنُ حَزْمٍ فَقَالَ لَا يَقْدِرُ عَلَى قَضَائِهَا أَبَدًا وَلَا يَصِحُّ فِعْلُهَا أَبَدًا، قَالَ بَلْ يُكْثِرُ مِنْ فِعْلِ الخَيْرِ وَصَلَاةِ التَّطَوُّعِ لِيَثْقُلَ مِيْزَانُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَيَسْتَغْفِرَ اللهَ تَعَالَى وَيَتُوبَ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ مَعَ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ بَاطِلٌ مِنْ جِهَةِ الدَّلِيلِ، وَبَسَطَ هُوَ الكَلَامَ فِي الاسْتِدْلَالِ لَهُ وَلَيْسَ فِيمَا ذَكَرَ دِلَالَةٌ أَصْلًا).
وَقَالَ (أيِ النَّوَوِيُّ) فِي الرَّوْضَةِ أَيْضًا (قَالَ الإِمَامُ وَالْمُتَعَدِّي بِتَرْكِ الصَّلَاةِ لَزِمَهُ قَضَاؤُهَا عَلَى الفَوْرِ بِلَا خِلَافٍ).
 
وَقَالَ ابْنُ الْمُلَقِّنِ فِي التَّوْضِيحِ عَلَى البُخَارِيِّ مَا نَصُّهُ (وَخُرُوجُ وَقْتِ العِبَادَةِ لَا يُسْقِطُ وُجُوبَهَا لِأَنَّهَا لَازِمَةٌ فِي الذِّمَّةِ كَالدَّيْنِ).
وَقَالَ أَيْضًا فِي الإِعْلَامِ بِفَوَائِدِ عُمْدَةِ الأَحْكَامِ مَا نَصُّهُ (التَّمَسُّكُ بِقَوْلِهِ (أَيْ فِي الحَدِيثِ) (إِذَا ذَكَرَهَا) وَالعَامِدُ ذَاكِرٌ لِتَرْكِهَا فَلَزِمَهُ قَضَاؤُهَا).
 
وَقَالَ ابْنُ قُدَامَةَ فِي الْمُغْنِي (وَلَا نَعْلَمُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ خِلَافًا فِي أَنَّ تَارِكَ الصَّلَاةِ يَجِبُ عَلَيْهِ قَضَاؤُهَا).
 
وَلَمْ يَنْفَرِدِ ابْنُ حَزْمٍ بِالشُّذُوذِ فِي هَذِهِ الْمَسْئَلَةِ وَخُرُوجِهِ عَنِ الإِجْمَاعِ بَلْ وَافَقَهُ فِي ذَلِكَ ابْنُ تَيْمِيَةَ شَيْخُ الْمُجَسِّمَةِ وَتِلْمِيذُهُ ابْنُ قَيِّمِ الجَوْزِيَّةِ وَأَتْبَاعُهُمَا مِنَ الوَهَّابِيَّةِ مُجَسِّمَةِ العَصْرِ، وَقَدَ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ ابْنُ تَيْمِيَةَ فِي الفَتَاوَى الكُبْرَى فَقَالَ (وَتَارِكُ الصَّلَاةِ عَمْدًا لا يُشْرَعُ لَهُ قَضَاؤُهَا ولا تَصِحُّ مِنْهُ بَلْ يُكْثِرُ مِنَ التَّطَوُّعِ وَكَذَا الصَّوْمُ).
 
وَفِي خُرُوجِ ابْنِ حَزْمٍ وَابْنِ تَيْمِيَةَ وَابْنِ قَيِّمِ الجَوْزِيَّةِ وَالوَهَّابِيَّةِ عَنِ الإِجْمَاعِ وَمَفْهُومِ الحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ الثَّابِتِ فِي هَذِهِ الْمَسْئَلَةِ فَتْحُ بَابِ تَرْكِ الصَّلَاةِ لِلنَّاسِ عَلَى مِصْرَاعَيْهِ وَتَشْجِيْعٌ لَهُم عَلَى ذَلِكَ بِتَهْوِينِ الأَمْرِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ وَتَسْهِيلِهِ عَلَى الْمُتَكَاسِلِينَ عَنْ تَأْدِيَتِهَا، فَحَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ.