إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد:
في زمن الفتن هذا ظهر رجل يسعى في نقض عرى الإسلام بدعوى أنه فقيه عالم فأتى بدين يخالف ما كان عليه المسلمون من زمن السلف الصالح رضي الله عنهم ومن اتبعوهم بإحسان إلى يومنا هذا، وظهرت لهذا الرجل مناقضات لكلام العلماء المجتهدين فتراه متعاليا عليهم يخالف كلام الأئمة العظماء مالك والشافعي وأحمد وتلك الطبقة وسائر أهل العلم الذين نسجوا على منوالهم، يزعم بجهله ولجهله أنه أتقى من أولئك الأعلام، وهيهات هيهات أن يكون مثله إلا مجاهرا بالضلال فاتحا أبواب الكفر بحجة لازم المذهب هو المذهب أم لا، وأن اللازم البين هل يلزم منه ملزومه أم لا، مخالفا ما نص عليه العلماء مما سيأتي، وكأن تلك الأمور خفيت على أئمة الاسلام فجهلوها ليكتشف هو بزعمه ما فات مالكا والشافعي وأحمد رضي الله عنهم، وأي تيه أدخل هذا الرجل نفسه فيه، فضل وأضل وفسد وأفسد، فقد كفر الإمام الشافعي المجسمة كما ذكره السيوطي في الأشباه والنظائر وأقره، ومثلهما كفرهم الإمام الأشعري في النوادر كما نقله الحافظ ابن عساكر في تبيين كذب المفتري وأقره أي ابن عساكر، كلهم قالوا المجسمة كفار لا يعرفون ربهم بل قال الإمام أحمد بتكفير المجسم وإن قال عن الله جسم لا كالاجسام لا ينفعه كما نقله بدر الدين الزركشي في تشنيف المسامع شرح جمع الجوامع وأقره، ثم هذا الجاهل الضال يتجرأ فيقول لا يكفر المجسم.
كذلك الإمام مالك يكفر القدري القائل أن العبد يخلق فعله فترى هذا الجويهل يرد كلام إمام الأئمة ويقول لا يكفر، وكذلك الشافعي كفر المعتزلي حفصا الفرد كما نص عليه شيخ الإسلام البلقيني نقله السيوطي في تدريب الراوي شرح تقريب النواوي وأقره، وما أسخف قول القائل التجسيم كفر ولا أكفر المجسمة، كالذي يقول السرقة حرام ولا أقول عن السارق أنه سارق وإن قام بالسرقة، مثله الزاني وأمثالهما، والدليل على جواز تكفير المعيّن الَّذي ثبت كفره ما ذكره القرآن من قول الله تعالى ﴿قَالَ لَهُۥ صَاحِبُهُۥ وَهُوَ يُحَاوِرُهُۥٓ أَكَفَرْتَ بِٱلَّذِى خَلَقَكَ مِن تُرَابٍۢ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍۢ ثُمَّ سَوَّىٰكَ رَجُلًا﴾ (سورة الكهف، الآية 37) فهذا الَّذي أنكر البعث بعد الموت وأنكر الجزاء والحساب وأنكر الآخرة قال له صاحبه في وجهه (كفرت بالله) وهذا تكفير للمعين، والقرآن أثبته، وما عابَ القرآن ولا أنكرَ على الذي كفّر المعيّن في وجهه، وهذا دليل من كتاب الله أنه يقال للكافر بعينه (يا كافر) سواء كان كافرا أصليا أم مرتدا، القرآن أثبت أنه يقال للمعين الذي حصل منه كفر (يا كافر) وذكر بعض المفسرين مثل البغوي وأبي حيان الأندلسي في البحر المحيط أن المؤمن قال لصاحبه الكافر (أكفرت) في وجهه، والدليل على ما نقول من الحديث الشريف قوله صلَّى الله عليه وسلَّم في صحيح مسلم (ﺃﻳﻤﺎ اﻣﺮﺉ ﻗﺎﻝ ﻷﺧﻴﻪ ﻳﺎ ﻛﺎﻓﺮ، ﻓﻘﺪ ﺑﺎء ﺑﻬﺎ ﺃﺣﺪﻫﻤﺎ، ﺇﻥ ﻛﺎﻥ ﻛﻤﺎ ﻗﺎﻝ، ﻭﺇﻻ ﺭﺟﻌﺖ ﻋﻠﻴﻪ) ومن الدليل على تكفير المعين ما قال الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه (من قال بحدوث صفة من صفات الله أو شك أو توقف كفر) ذكره في كتابه الوصية، فالإمام أبو حنيفة يكفّر من يقول بحدوث صفة من صفات الله أو شك أو توقف في ذلك، لأن كل صفات الله أزلية كما أن ذات الله أزلي لا بداية له، وهذا بيان لمعنى قول بعض العلماء (لازم المذهب ليس بمذهب) فهو عن اللازم الخفي وليس عن اللازم البين، فمن قال ليس لله علم ولا قدرة لا ينفعه أن يقول بعد ذلك الله قادر الله عالم وهو يقول لا قدرة له تعالى ولا علم، هذا كفر، فلازم المذهب البين أي الظاهر مذهب بإجماع علماء أهل السنة والجماعة فقد قال الإمام تقي الدين السبكي في السيف الصقيل في كلمة ينقلها عن ابن قيم الجوزية الضال تلميذ ابن تيمية الحراني المجسم وعبارته (قال ابن القيم وقضى (يعني جهما (وهو خبيث قبل ابن القيم كان) وشيعته الذين هم الأشعرية بزعمه بأن الله كان معطلا، والفعل ممتنع بلا إمكان، ثم استحال وصار مقدورا له من غير أمر قام بالديان) فقال السبكي (مقصوده أن الله ما زال يفعل وهذا يستوجب القول بقدم العالم وهو كفر) ثم عقب الشيخ محمد زاهد الكوثري على قول السبكي (وهذا يستوجب القول بقدم العالم) بقوله (وهذا الاستلزام بيّن وما يقال من أن لازم المذهب ليس بمذهب إنما هو فيما إذا كان اللزوم غير بيّن، فاللازم البيّن لمذهب العاقل مذهب له. وأما من يقول بملزوم مع نفيه للازمه البيّن فلا يعد هذا اللازم مذهبا له، لكن يسقطه هذا النفي من مرتبة العقلاء إلى درك الأنعام، وهذا هو التحقيق في لازم المذهب، فيدور أمر القائل بما يستلزم الكفر لزوما بيّنا بين أن يكون كافرا أو حمارا) كما في كتاب السيف الصقيل في الرد على ابن زفيل لتقي الدين السبكي يرد به على نونية ابن القيم، وعليه تعقيبات وتكملة الرد على هذه النونية بقلم محمد زاهد الكوثري (ص – 33).
فإن قال قائل من أين لك هذا التفصيل ومَنْ مِنَ العلماء بيّنه؟ نقول:
تتابع شراح مختصر خليل بن إسحاق في الفقه المالكي على التنبيه لهذا القيد ومنهم الشيخ محمد عليش ونصه (وسواء كفر بقول صريح في الكفر، كقوله أكفر بالله أو برسول الله أو بالقرآن أو الإله اثنان أو ثلاثة أو المسيح ابن الله أو العزيز ابن الله أو بلفظ يقتضيه أي يستلزم اللفظ الكفر استلزاما بينا كجحد مشروعية شيء مجمع عليه معلوم من الدين ضرورة، فإنه يستلزم تكذيب القرآن أو الرسول، وكاعتقاد جسمية الله وتحيزه فإنه يستلزم حدوثه (أي الله) واحتياجه لمحدث (بكسر الدال) ونفي صفات الألوهية عنه جل جلاله وعظم شأنه) من كتاب منح الجليل (9 – 205 – 206).
وهذا الشيخ محمد الدسوقي المالكي في حاشيته على الشرح الكبير يقول (قوله (بصريح) أي بقول صريح في الكفر، قوله (أو لفظ يقتضيه) أي يقتضي الكفر أي يدل عليه سواء كانت الدلالة التزامية كقوله الله جسم متحيز فإن تحيزه يستلزم حدوثه لافتقاره للحيز، والقول بذلك كفر، أو تضمنية، كما إذا أتى بلفظ له معنى مركب من كفر وغيره، كقوله زيد خداي، إذا استعمله في الإله المعبود بحق، ولأجل هذا التعميم عبر ب (يقتضيه) دون (يتضمنه) لإيهامه أن المعتبر في اللفظ دلالة التضمن فقط، قوله (كقوله الله جسم متحيز) أي وكقوله العزير أو عيسى ابن الله، قوله (أو فعل يتضمنه) إسناد التضمن للفعل يدل على أن المراد هنا الالتزام لا حقيقة التضمن الذي هو دلالة اللفظ على جزء المعنى الموضوع له، قوله (ويستلزم إلخ) أي وأما قولهم لازم المذهب ليس بمذهب فمحمول على اللازم الخفي) من كتاب حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (4 – 301) كما يعقب في موضع آخر ليقول (قوله أو فرعون) أي أو غزوة بدر أو أحد أو صحبة أبي بكر، (قوله لأنه تكذيب للقرآن) أي فوجود ما ذكر معلوم بالضرورة من الدين يجب الإيمان به لأن إنكاره يؤدي لتكذيب القرآن….والحق أن إنكار وجود أبي بكر ردة لأنه يلزم من إنكار وجوده إنكار صحبته لزوما بينا وقد علمت أن قولهم لازم المذهب ليس بمذهب في اللازم غير البين كذا قرر شيخنا) كتاب حاشية الدسوقي (4 – 303 – 304).
وهذا الشيخ أحمد الصاوي المالكي يشرح قوله (أو فعل يتضمنه) إسناد التضمن للفعل يدل على أن المراد به هنا الالتزام لا حقيقة التضمن الذي هو دلالة اللفظ على جزء المعنى الموضوع له، فلذلك قال الشارح أي يستلزمه، ولا يرد علينا قولهم لازم المذهب ليس بمذهب لأنه في اللازم الخفي، وعبّر أولا بيقتضيه وثانيا بيتضمنه تفنناً) من كتاب بلغة السالك لأقرب المسالك للشيخ أحمد الصاوي (4 – 224).
وقال الخراشيّ المالكيّ قولُه (إلا أن يقال لازمُ المذهب ليس بمذهب) ظاهره ولو بينا، مع أنّ اللازم إذا كان بيّنا يكون كفرا، ولا يخفى أنّ اللازم هنا بيّن فليُنظر ذلك) من كتاب شرح مختصر خليل للخرشي.
وقال الشيخ حسن العطار في حاشيته على شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع (لازِمَ المَذهَب لا يُعَدُّ مَذهَبا إلا أَن يكونَ لازما بَيِّنا فَإِنَّهُ يُعَدُّ) حاشية العطار على شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع (2 – 426).
وقال في موضع آخر (مهمّتان) الأولى قولهم (اي الفقهاء) لازم المذهب ليس بمذهب مقيّد بما إذا لم يكن لازما بينا، الثّانية التّكفير بالعقائد لا سيّما مسألة الكلام أمر مستفيض فيه النّزاع بين الأئمّة من قديم الزّمان حتّى نقل السّيوطيّ في شرح التّقريب أنّ القائل بخلق القرآن يكفر، نصّ عليه الشّافعيّ واختاره البلقينيّ ومنع تأويل البيهقيّ له بكفران النّعمة، فإنّ الشّافعيّ قال ذلك في حقّ حفص الفرد لمّا أفتى (أي الشافعي) بضرب عنقه (أي عنق حفص)، وهذا ردّ للتّأويل) حاشية العطار على شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع (4 – 249).
وقال الإمام الكبير القاضي عبد الوهاب البغدادي المالكي المتوفى سنة 422 هـ (ولا يجوز أن يثبت له (أي لله) كيفية لأن الشرع لم يرد بذلك ولا أخبر النبي عليه السلام فيه بشيء ولا سألته الصحابة عنه ولأن ذلك يرجع إلى التنقل والتحول وإشغال الحيّز والافتقار إلى الأماكن وذلك يؤول إلى التجسيم وإلى قِدم الأجسام وهذا كفر عند كافة أهل الإسلام)، فالقاضي عبد الوهاب يكفّر كل من يثبت لله تعالى الكيفية، وأوضح ما يلزم من هذا القول بأنه يؤول إلى التجسيم وإلى قدم الأجسام وقال وهذا كفر عند عامة أهل الإسلام.