إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد: 

قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي إِحْيَاءِ عُلُومِ الدِّينِ (إِنَّهُ (أَيِ اللَّه) أَزَلِيٌّ لَيْسَ لِوُجُودِهِ أَوَّلٌ وَلَيْسَ لِوُجُودِهِ ءَاخِرٌ وَإِنَّهُ لَيْسَ بِجَوْهَرٍ يَتَحَيَّزُ بَلْ يَتَعَالَى وَيَتَقَدَّسُ عَنْ مُنَاسَبَةِ الْحَوَادِثِ وَإِنَّهُ لَيْسَ بِجِسْمٍ مُؤَلَّفٍ مِنْ جَوَاهِرَ، وَلَوْ جَازَ أَنْ يُعْتَقَدَ أَنَّ صَانِعَ الْعَالَمِ جِسْمٌ لَجَازَ أَنْ تُعْتَقَدَ الأُلُوهِيَّةُ لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ أَوْ لِشَىْءٍ ءَاخَرَ مِنْ أَقْسَامِ الأَجْسَامِ فَإِذًا لا يُشْبِهُ شَيْئًا وَلا يُشْبِهُهُ شَىْءٌ بَلْ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ الَّذِي لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ وَأَنَّى يُشْبِهُ الْمَخْلُوقُ خَالِقَهُ وَالْمُقَدَّرُ مُقَدِّرَهُ وَالْمُصَوَّرُ مُصَوِّرَهُ) (وَالْخَلْقُ الْمُقَدَّرُ أَيْ لَهُ كَمِيَّةٌ هَذَا شَكْلُهُ مُرَبَّعٌ وَهَذَا شَكْلُهُ غَيْرُ ذَلِكَ وَهَذَا حَارٌّ وَهَذَا بَارِدٌ).
مَعْنَى كَلامِ الْغَزَالِيّ رَحِمَهُ الله أَنَّ الْعَالَم جَوَاهِرُ وَأَعْرَاضٌ، وَالْجَوْهَرُ عِنْدَ عُلَمَاءِ اللُّغَةِ أَصْلُ الشَّىْءِ وَهُوَ مَا لَهُ تَحَيُّزٌ وَقِيَامٌ بِذَاتِهِ كَالأَجْسَامِ فَمَا لَهُ حَجْمٌ كَثِيفٌ كَالْعَرْشِ وَالشَّجَرِ وَالْحَجَرِ وَالسَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالإِنْسَانِ وَالنَّبَاتِ أَوْ لَطِيفٌ كَالرِّيحِ وَالنُّورِ وَالرُّوحِ وَالْجِنِّ وَالْمَلائِكَةِ يُقَالُ لَهُ جَوْهَرٌ، وَالْجَوْهَرُ إِمَّا مُرَكَّبٌ وَإِمَّا مُفْرَدٌ فَالْمُفْرَدُ هُوَ الْجَوْهَرُ الْفَرْدُ، وَالْمُرَكَّبُ مَا تَرَكَّبَ مِنْ جَوْهَرَيْنِ فَأَكْثَرَ.
 
وَأَمَّا الْعَرَضُ فهُوَ صِفَاتُ الْجَوْهَرِ كَحَرَكَةِ الْجِسْمِ وَسُكُونِهِ وَالْبُرُودَةِ وَالْحَرَارَةِ وَالتَّحَيُّزِ فِي مَكَانٍ وَجِهَةٍ، فَالنَّارُ جَوْهَرٌ وَحَرَارَتُهَا عَرَضٌ وَالرِّيحُ جَوْهَرٌ وَحَرَارَتُهَا أَوْ بُرُودَتُهَا عَرَضٌ، وَأَصْغَرُ الأَشْيَاءِ يُقَالُ لَهُ الْجَوْهَرُ الْفَرْدُ وَهُوَ الْجُزْءُ الَّذِي لا يَتَجَزَّأُ مِنْ تَنَاهِيهِ فِي الْقِلَّةِ، وَالْجِسْمُ مَا تَرَكَّبَ مِنْ جَوْهَرَيْنِ فَأَكْثَرَ بِأَنْ يَنْضَمَّ إِليه جَوْهَرٌ ءَاخَرُ فَيَصِيرُ قَابِلًا لِلْقِسْمَةِ، فَاللَّهُ تَعَالَى لا يُشْبِهُ ذَلِكَ كُلَّهُ بَلْ يَتَنَزَّهُ عَنْ مُشَابَهَةِ الْحَوَادِثِ، وَلَيْسَ لَهُ حَدٌّ وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْحَدَّ هُوَ مِقْدَارُ الْجِرْمِ، فَمِقْدَارُ الْجَسَدِ يُقَالُ لَهُ الْحَدُّ وَالشَّمْسُ لَهَا حَدٌّ وَهِيَ مَعَ عُظْمِ نَفْعِهَا مُسَخَّرَةٌ لِغَيْرِهَا وَاللَّهُ هُوَ خَالِقُهَا لِأَنَّ الشَّمْسَ لا تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ مُدَبِّرَةً لِلْعَالَمِ لِأَنَّ لَهَا حَجْمًا وَمِقْدَارًا وَجِهَةً وَمَكَانًا فَلَوْ كَانَتِ الأُلُوهِيَّةُ تَصِحُّ لِلأَجْسَامِ لَصَحَّتْ لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَتِ الأُلُوهِيَّةُ تَصِحُّ لِشَىْءٍ مِنَ الأَجْسَامِ لَكَانَتِ الشَّمْسُ أَوْلَى بِالأُلُوهِيَّةِ لِكَثْرَةِ مَنَافِعِهَا وَحُسْنِ لَوْنِهَا مِمَّا هُوَ مَحْسُوسٌ لِكُلِّ الْخَلْقِ، فَكُلُّ مَا لَهُ حَيِّزٌ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ إِلَهًا، وَالتَّحَيُّزُ هُوَ أَخْذُ مِقْدَارٍ مِنَ الْفَرَاغِ، فَالنُّورُ يَأْخُذُ مَسَافَةً وَالظَّلامُ يَأْخُذُ مَسَافَةً، وَالرِّيحُ كَذَلِكَ، فَاللَّهُ تَعَالَى بِمَا أَنَّهُ لَيْسَ حَجْمًا كَثِيفًا وَلا لَطِيفًا لا يَجُوزُ فِي حَقِّهِ أَنْ يَأْخُذَ قَدْرًا مِنَ الْفَرَاغِ، فَلَوْ قَالَ أَحَدُ عَبَدَةِ الشَّمْسِ الْمُلْحِدِينَ لِمُسْلِمٍ أَنْتَ تَقُولُ إِنَّ دِينِي هُوَ الصَّحِيحُ وَتَقُولُ عَنِّي إِنَّ دِينِيَ بَاطِلٌ فَأَيْنَ الدَّلِيلُ، فَإِنْ قَالَ لَهُ هذا الْمُسْلِمُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿أَفِي اللَّهِ شَّكٌّ﴾ (سُورَةَ إِبْرَاهِيم – 10) يَقُولُ الْمُلْحِدُ أَنَا لا أُؤْمِنُ بِكِتَابِكَ أَعْطِنِي دَلِيلًا عَقْلِيًّا، فَإِنْ كَانَ هَذَا الْمُسْلِمُ يَفْهَمُ الدَّلِيلَ الْعَقْلِيَّ وَالدَّلِيلَ النَّقْلِيَّ عَلَى وَجْهِهِ يَقُولُ هَذِهِ الشَّمْسُ لَهَا هَيْئَةٌ وَشَكْلٌ وَحُدُودٌ وَالشَّىْءُ الْمَحْدُودُ يَحْتَاجُ إِلَى حَادٍّ حَدَّهُ بِهَذَا الْحَدِّ، ثُمَّ هِيَ مُتَطَوِّرَةٌ وَالْمُتَطَوِّرُ يَحْتَاجُ إِلَى مُطَوِّرٍ لَهُ فَهَذِهِ لا تَصْلُحُ عَقْلًا أَنْ تَكُونَ إِلَهًا كَمَا أَنْتَ تَزْعُمُ، وَأَمَّا دِينِي فَحَقٌّ لِأَنَّ دِينِي يَقُولُ إِنَّ صَانِعَ الْعَالَمِ لا يُشْبِهُهُ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ مُنَزَّهٌ عَنِ الْحَدِّ وَالْمَكَانِ وَالشَّكْلِ وَالْكَيْفِيَّةِ مُنَزَّهٌ عَنْ كُلِّ مَا فِي هَذَا الْعَالَمِ مِنْ صِفَةٍ، فَلِذَلِكَ دِينِي هُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي يَقْبَلُهُ الْعَقْلُ فَيَكُونُ هَذَا الْمُسْلِمُ قَطَعَ بِهَذَا الدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ عَابِدَ الشَّمْسِ وَأَدْحَضَ دَعْوَاهُ، أَمَّا الَّذِي يَقُولُ اللَّهُ سَاكِنٌ فِي السَّمَاءِ فَبِأَيِّ دَلِيلٍ يَدْفَعُ كَلامَ هَذَا الَّذِي يَعْبُدُ الشَّمْسَ، يَقُولُ لَهُ ذَاكَ أَنْتَ تَقُولُ إِنَّ مَعْبُودِيَ سَاكِنٌ فِي السَّمَاءِ وَأَنَا أَقُولُ إِنَّ مَعْبُودِيَ الشَّمْسُ فِي الْفَضَاءِ وَقَدْ يَدَّعِي أَنَّهَا فِي سَمَاءٍ مِنَ السَّمَوَاتِ وَالشَّمْسُ مَنْفَعَتُهَا ظَاهِرَةٌ تَنْفَعُ الْهَوَاءَ وَالنَّبَاتَ وَالإِنْسَانَ، وَأَنْتَ تَعْبُدُ شَيْئًا مُتَحَيِّزًا مُتَوَهَّمًا وَأَنَا أَعْبُدُ شَيْئًا مُتَحَيِّزًا مُتَحَقَّقَ الْوُجُودِ مُشَاهَدًا يَرَاهُ كُلُّ الْخَلْقِ وَيَرَوْنَ مَنْفَعَتَهُ وَأَمَّا هَذَا الَّذِي أَنْتَ تَعْبُدُهُ لا نَرَاهُ وَلا أَنْتَ رَأَيْتَهُ وَلا أَحْسَسْنَا لَهُ بِمَنْفَعَةٍ، فَلِمَاذَا تَجْعَلُ الْحَقَّ فِي دِينِكَ وَتَجْعَلُ دِينِي مُخَالِفًا لِلْحَقِّ فَذَاكَ الْمُشَبِّهُ كَالْوَهَّابِيِّ الَّذِي يَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ جَسَدٌ قَاعِدٌ فَوْقَ الْعَرْشِ لا يَكُونُ عِنْدَهُ جَوَابٌ.