إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد:
اعْلَمْ أَنَّ الْكُفْرَ ثَلاثَةُ أَبْوَابٍ إِمَّا تَشْبِيهٌ أَوْ تَكْذِيبٌ أَوْ تَعْطِيل يَعنِي أَنَّ أَبْوَابَ الْكُفْرِ ثَلاثَةٌ تَشْبِيهٌ أَيْ تَشْبِيهُ اللَّهِ بِخَلْقِهِ، وَتَكْذِيبٌ أَيْ لِلشَّرْعِ، وَتَعْطِيلٌ أَيْ نَفْيُ وُجُودِ اللَّهِ تَعَالَى
1) التَّشْبِيهُ أَيْ تَشْبِيهُ اللَّهِ بِخَلْقِهِ كَمَنْ يَصِفُهُ بِالْحُدُوثِ أَوِ الْفَنَاءِ أَوِ الْجِسْمِ أَوِ اللَّوْنِ أَوِ الشَّكْلِ أَوِ الْكَمِيَّةِ أَيْ مِقْدَارِ الْحَجْمِ، أَمَّا مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ (إِنَّ اللَّهَ جَمِيلٌ) فَلَيْسَ مَعْنَاهُ جَمِيلَ الشَّكْلِ وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ جَمِيلُ الصِّفَاتِ أَوْ مُحْسِنٌ، فَإنَّ مَنْ وَقَعَ فِي التَّشْبِيهِ فَعَبَدَ صُورَةً مَا أَوْ خَيَالًا تَخَيَّلَهُ يَكُونُ بِذَلِكَ مِنَ الْكَافِرِينَ الْخَارِجِينَ عَنْ مِلَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ زَعَمَ أَنَّهُ مِنْهُمْ لِأَنَّ الَّذِي يُشَبِّهُ اللَّهَ بِخَلْقِهِ يَكُونُ مُكَذِّبًا لِـ (لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) مَعْنًى وَلَوْ قَالَهَا لَفْظًا وَمَعْنَى إِنَّ اللَّهَ جَمِيلُ الصِّفَاتِ أَيْ صِفَاتُهُ كَامِلَةٌ، وَقَوْلُهُ (أَوْ مُحْسِنٌ) أَيْ يُحْسِنُ لِعِبَادِهِ وَيَتَكَرَّمُ عَلَيْهِمْ بِنِعَمِهِ، وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَهُوَ (إِنَّ اللَّهَ نَظِيفٌ يُحِبُّ النَّظَافَةَ) فَمَعْنَاهُ مُنَزَّهٌ عَنِ السُّوءِ وَالنَّقْصِ، وَقَوْلُهُ (يُحِبُّ النَّظَافَةَ) أَيْ يُحِبُّ لِعِبَادِهِ نَظَافَةَ الْخُلُقِ وَالْعَمَلِ وَالثَّوْبِ وَالْبَدَنِ.
2) التَّكْذِيبُ أَيْ تَكْذِيبُ مَا وَرَدَ فِي الْقُرْءَانِ الْكَرِيْمِ أَوْ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى وَجْهٍ ثَابِتٍ وَكَانَ مِمَّا عُلِمَ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ كَاعْتِقَادِ فَنَاءِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، أَوْ أَنَّ الْجَنَّةَ لَذَّاتٌ غَيْرُ حِسِيَّةٍ، وَأَنَّ النَّارَ ءَالامٌ مَعْنَوِيَّةٌ، أَوْ إِنْكَارِ بَعْثِ الأَجْسَادِ وَالأَرْوَاحِ مَعًا أَوِ إِنْكَارِ وُجُوبِ الصَّلاةِ أَوِ الصِّيَامِ أَوِ الزَّكَاةِ، أَوِ اعْتِقَادِ تَحْرِيْمِ الطَّلاقِ أَوِ تَحْلِيلِ الْخَمْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا ثَبَتَ بِالْقَطْعِ وَظَهَرَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، يَعْنِي مِنْ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ كُفْرَ التَّكْذِيبِ وَيَكُونُ بِتَكْذِيبِ مَا جَاءَ بِهِ الْقُرْءَانُ مِمَّا هُوَ ظَاهِرٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ كَتَحْلِيلِ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ أَوْ بِرَدِّ مَا جَاءَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ بِأَنَّ هَذَا الأَمْرَ مِمَّا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ، فَمَنْ جَحَدَ خَبَرَ الْقُرْءَانِ وَمَا قَدْ ثَبَتَ عِنْدَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ جَاءَ بِهِ فَهُوَ كَافِرٌ لا شَكَّ فِي ذَلِكَ، وَأَمَّا إِنْ سَمِعَ حَدِيثًا يُوهِمُ ظَاهِرُهُ أَنَّ لِلَّهِ جَوَارِحَ فَأَنْكَرَهُ جَهْلًا مِنْهُ فَإِنَّهُ لا يَكْفُرُ وَذَلِكَ كَأَنْ سَمِعَ حَدِيثَ (وَلا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطُشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا) فَأَنْكَرَهُ ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهُ مُفْتَرًى عَلَى الرَّسُولِ وَأَنَّ فِيهِ إِثْبَاتَ الْجَوَارِحِ لِلَّهِ فَإِنَّهُ لا يَكْفُرُ، وَهَذَا الْحَدِيثُ مَعْنَاهُ أَحْفَظُ لَهُ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ وَيَدَهُ وَرِجْلَهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَيْ أُعْطِيهِ قُوَّةً غَرِيبَةً فِي سَمْعِهِ وَبَصَرِهِ وَيَدِهِ وَرِجْلِهِ.
وَمِنْ كُفْرِ التَّكْذِيبِ أَيْضًا اعْتِقَادُ فَنَاءِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ أَوْ إِحْدَاهُمَا وَهُوَ كُفْرٌ بِالإِجْمَاعِ، وَمِثْلُهُ فِي الْحُكْمِ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْجَنَّةَ لَذَّاتُهَا مَعْنَوِيَّةٌ فَقَطْ أَوْ أَنَّ النَّارَ لَيْسَ فِيهَا ءَالامٌ حِسِيَّةٌ لِأَنَّ هَذَا إِنْكَارٌ لِنُصُوصِ الشَّرْعِ الصَّرِيْحَةِ الْمُتَوَاتِرَةِ الْمَعْرُوفَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ الْعُلَمَاءِ وَالْعَوَامِّ، وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ الْجَنَّةَ فِيهَا لَذَّاتٌ حِسِيَّةٌ ءَايَاتٌ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ﴾ (سُورَةَ الْحَاقَّة 24)، وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ النَّارَ فِيهَا ءَالامٌ حِسِيَّةٌ ءَايَاتٌ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ﴾ (سُورَةَ النِّسَاء 56).
وَمن التَّكْذِيبِ لِلشَّرْعِ إِنْكَارُ بَعْثِ الأَرْوَاحِ وَالأَجْسَادِ مَعًا فَإِنِ اعْتَقَدَ مُعْتَقِدٌ أَنَّ الأَرْوَاحَ تُبْعَثُ فَقَطْ دُونَ الأَجْسَادِ فَإِنَّهُ يَكْفُرُ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ تَعَالَى، وَالنُّصُوصُ الصَّرِيْحَةُ بِبَعْثِ الأَجْسَادِ كَثِيرَةٌ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ﴾ (سُورَةَ الأَنْبِيَاء 104) وَهَذَا الأَمْرُ مَعْلُومٌ عِنْدَ الْجَاهِلِ وَالْعَالِمِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَمِنَ الْكُفْرِ إِنْكَارُ أَيِّ أَمْرٍ مَعْلُومٍ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ كَإِنْكَارِ وُجُوبِ الصَّلاةِ وَالصِّيَامِ وَالزَّكَاةِ، ونَقَلَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي الشِّفَا الإِجْمَاعَ عَلَى تَكْفِيرِ مَنْ أَنْكَرَ وُجُوبَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَعَدَدَ رَكَعَاتِهَا وَسَجَدَاتِهَا، وَكَذَا الْحُكْمُ فِيمَنْ يَعْتَقِدُ تَحْرِيْمَ الطَّلاقِ عَلَى الإِطْلاقِ فَإِنَّ فَسَادَ هَذَا ظَاهِرٌ بَيْنَ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعُلَمَائِهِمْ، وَمِثْلُهُ حُكْمُ مَنْ أَحَلَّ شُرْبَ الْخَمْرِ فَقَدْ أَجْمَعَ عَلَى تَحْرِيْمِهَا الأَئِمَّةُ مِنْ عَهْدِ صَحَابَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَيَّامِنَا هَذِهِ وَانْتَشَرَ هَذَا الْحُكْمُ وَشُهِرَ حَتَّى بَيْنَ مَنْ يَشْرَبُهَا مِنَ الأُمَّةِ وَلِذَلِكَ جَزَمَ الْعُلَمَاءُ بِتَكْفِيرِ مَنْ أَحَلَّ شُرْبَهَا مُطْلَقًا، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ وَشَذَّ رَعَاعٌ مُرَادُهُمْ هَدْمُ الدِّينِ وَإِفْسَادُ الشَّرْعِ وَإِشَاعَةُ الْفَوَاحِشِ وَالرَّذَائِلِ فَزَعَمُوا أَنْ لَيْسَ فِي الْقُرْءَانِ نُصُوصٌ عَلَى تَحْرِيْمِ الْخَمْرِ بَلْ غَايَةُ مَا جَاءَ فِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَالأَنْصَابِ وَالأَزْلامِ ﴿فَاجْتَنِبُوهُ﴾ وَغَرَضُهُمْ بِهَذَا الْكَلامِ الْمُمَوَّهِ التَّوَصُّلُ إِلَى إِبَاحَةِ الْخَمْرِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنْتَهُونَ﴾ (سُورَةَ الْمَائِدَة)، فَقَوْلُهُ ﴿فَاجْتَنِبُوهُ﴾ مَعَ قَوْلِهِ ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنْتَهُونَ﴾ يُفْهِمَانِ التَّحْرِيْمَ الشَّدِيدَ وَلِهَذَا قَالَ عُمَرُ لَمَّا سَمِعَهَا (انْتَهَيْنَا انْتَهَيْنَا) رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ، وَأَرَاقَ الْمُسْلِمُونَ لَمَّا نَزَلَتْ ءَايَةُ التَّحْرِيْمِ الْخَمْرَ حَتَّى جَرَتْ فِي شَوَارِعِ الْمَدِينَةِ.
وَهَذَا بِخِلافِ مَنْ يَعْتَقِدُ بِوُجُوبِ الصَّلاةِ عَلَيْهِ مَثَلًا لَكِنَّهُ لا يُصَلِّي فَإِنَّهُ يَكُونُ عَاصِيًا لا كَافِرًا كَمَنْ يَعْتَقِدُ عَدَمَ وُجُوبِهَا عَلَيْهِ، وهَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ أَنَّ مُرْتَكِبَ الْكَبِيرَةِ لا يَكْفُرُ إِذَا لَمْ يَسْتَحِلَّهَا.
3) التَّعْطِيلُ أَيْ نَفْيُ وُجُودِ اللَّهِ وَهُوَ أَشَدُّ الْكُفْرِ كَالشُّيُوعِيَّةِ النَّافِينَ لِوُجُودِهِ تَعَالَى وَهَذَا أَشَدُّ الْكُفْرِ عَلَى الإِطْلاقِ وَكَذَلِكَ كُفْرُ الْوَحْدَةِ الْمُطْلَقَةِ وَكُفْرُ الْحُلُولِ.