إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد: 

الدّليلُ على صِحّةِ قَولِ أهلِ السُّنّةِ والجمَاعة الماتريديّة والأشَاعِرة أنّ القُرآنَ لهُ إطْلاقَان أحَدُهما اللّفظُ المنَزَّل الذي أَخَذَه جِبريلُ بأَمرِ اللهِ مِنَ اللّوح المحفُوظ وقَرأَه على النّبيّ وهَذا حَرفٌ وصَوتٌ والحَرفُ والصّوت حَادثان مَخلُوقَان، العَربيّةُ وغَيرُها مَخلُوقَة ويُقَال لهذا اللفظ المنَزّل كلامُ اللهِ على مَعنى أنّه عِبَارةٌ عن كَلام الله الذي هوَ صِفةٌ أزَليّةٌ أبَديّةٌ ليسَ حَرفًا وصَوتًا لأنّ الحَرفَ مَخلُوقٌ لا يكونُ أزَليًا كمَا أنّ اسمَ الله إذا كُتِبَ على جِدَار أو على وَرقةٍ يُقَالُ هَذا اللهُ بمعنى أنّه عِبارَةٌ عن الذّات الأزليّ الأبدي المعبُود بحَقّ وليسَ على معنى أنّ هذه الحروفَ هيَ الله.
 
والإطلاقُ الثّاني الكلامُ الذي هوَ صِفةٌ للهِ أزَليّ بأزليّةِ الذّاتِ أي قَديم بقِدَم الذّات والدّليلُ على هذا قولُه تَعالى (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19)) والضّميرُ في إنّه عَائدٌ على القُرآن بإجماع المفَسّرين، فمعنى (إنّه لقَولُ رَسُولٍ كَريم) أي شَيء قرَأَه جِبريلُ أي أنّ هَذا القرآنَ الذي هوَ اللّفظُ المنَزّل مَقرُوءُ جِبريلَ أي شَيء قَرأه جِبريلُ وهوَ ليسَ عَينَ كلام اللهِ الذي هوَ صِفَةٌ لهُ فلَو كانَ عَينَ كَلام الله لم يَقُل اللهُ إنّه لقَولُ رَسولٍ كَريم بل قالَ إنّه لقَولي، ولهذا قالَ عُلَماءُ أَهلِ السُّنّةِ القُرآنُ لهُ إطْلاقَان، ثم مِنَ الدّليل الصّريح على أنّ اللهَ لا يَجُوز أن يتَكَلَّم بالحَرف والصّوت أنّه تَبارك وتعالى يُسمِعُ كَلامَه في الآخِرة كُلَّ الإنسِ والجنّ ويَنتَهي مِن حِسَابِهم في سَاعةٍ لقَولِه تعالى (وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ) فلَو كانَ اللهُ يتَكَلَّم بالحَرف والصّوت لم يَكُن أَسرَعَ الحاسِبينَ بل لكَان أبطَأ الحاسِبِين لأنّ عَددَ الذينَ يُحاسِبُهم اللهُ في الآخِرَة مِنَ الجِنّ والإنسِ خَلقٌ كَثِيرٌ لا يَعلَمُ عَدَدَهُم إلا الله ولو كانَ يُكَلّمُهم بالحَرف والصّوت لم يسَعْ ذلكَ يَوم القيامَة الذي هو خمسُونَ ألفَ سَنة وأمّا أنّ اللهَ يُكَلّمُ ذلكَ اليَوم كُلَّ واحِد فقَد صَحّ الحديث (مَا مِن أحَدٍ مِنكُم إلا سيُكَلّمُه ربُّه يومَ القِيامَةِ مِن غَيرِ تَرجُمانٍ ولا حَاجِب) ومَعناهُ أنّه يُسمِعُهم كَلامَه الذي ليسَ حَرفًا ولا صَوتًا ويُحَاسِبُهم بهِ فعَلى قَولِ المشَبّهَةِ الذينَ يَجعَلُونَ كَلامَ اللهِ ككَلام خَلقِه فيَقُولُونَ إنّه متَكَلّم بحَرف وصَوتٍ لا يصِحُّ مَعنى الآيةِ وهوَ أسرَعُ الحاسبِينَ لأنّ الكلام الذي هوَ حَرفٌ وصَوتٌ يسبِقُ بَعضُه بَعضًا ويتَأخَّر بَعضُه عن بَعضٍ بَيانُ ذلكَ أنّ بِسم الله الرحمن الرّحيم تُوجَد الباء أولًا فتَنقَضِي ثم تُوجَدُ السّين فتَنقَضِي ثم تُوجَدُ الميم فتَنقَضي وهكذا وهَذا حالُ كَلام البشَر لأنّنا نَنطِقُ بحَرف ثم نُتبِعُه حَرفًا ثم نُتبِعُه حَرفًا آخَر.