إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد:
فإنَّ عِلْمَ التوحيد مُقدَّمٌ على عِلْمِ الأحكامِ لأنَّ عِلْمَ التوحيد يَضمَنُ النجاةَ في الآخرَةِ أما عِلْمُ الأحكامِ فلا يَضمَنُ بِمفرَدِهِ النجاةَ في الآخرة، ولأهَمِيَّةِ هذا العلم سَمَّاهُ الإمامُ أبو حنيفةَ الفِقهَ الأكبرَ معناهُ هو أفضَلُ مِنَ الفقهِ الآخر الذي هو فقهُ الأحكامِ.
وأبو حنيفةَ كانَ من السَّلَفِ لأنه ولِدَ سنةَ ثَمانينَ للهجرة، والتقى ثلاثةً من الصَّحابةِ وألَّفَ خَمْسَ رسائِلَ في العقيدةِ منها رسالةٌ سَمَّاها الفقهَ الأكبر قال فيها (واللهُ شىءٌ لا كالأشياءِ) ومعنى شىءٍ إذا أُطلِقَ على الله: الموجود، ومعنى قولِهِ لا كالأشياء أنَّ اللهَ لا يُشبِهُ شيئًا من خَلقِهِ لا في ذاتِهِ أي حقيقتِهِ ولا في صفاتِهِ ولا في فعلِهِ، ومعنى فعلِ الله: إيجادُ اللهِ الأشياءَ على الوجهِ الذي أرادَ.
قالَ أبو حنيفةَ والبخاريُّ (فِعْلُ اللهِ صِفَتُهُ في الأزل والْمفعولُ حادِثٌ) معناهُ صِفَةُ اللهِ التخليق أزلية والْمخلوقُ هو الحادِثُ أي هو الذي حَدَثَ بعد أنْ لَم يكنْ.
وفي قولِهِ (لا كالأشياءِ) رَدٌّ على المشبّهَةِ القائلينَ إنَّ اللهَ مُستَقِرٌّ فوقَ العَرشِ وعلى الطائفَةِ القائلَةِ إنَّ اللهَ في جِهَةٍ فوقَ العرشِ مِنْ غيرِ أنْ يُمَاسَّ العرشَ وكِلا العقيدتينِ كُفْرٌ، لأنَّ الموجودَ في جهةٍ لا يكونُ إلا حَجمًا وكذلكَ المستَقِرُّ على شىءٍ لا يكونُ إلا حجمًا وكلُّ الأحجامِ مَخلوقَةٌ، فلو كانَ اللهُ حَجمًا لكانَ مَخلوقًا ولو كان مَخلوقًا لَمَا كان خالِقًا فَثبَتَ أنَّ اللهَ ليسَ حجمًا بالْمَرَّة، ويُفهمُ مِن ذلك إثباتُ وجودِهِ بلا مكانٍ ولا جِهَةٍ.
وقالَ أبو حنيفةَ في رسالتِهِ الفقهِ الأكبر (واللهُ يتكَلَّمُ لا كما نَحنُ نتكلَّم، نَحنُ نتكلَّمُ بالآلةِ والحرف، واللهُ يتكلَّمُ بلا ءالةٍ ولا حرف) وهذا فيه إثباتُ صفةِ الكلامِ لله الذي هو ليسَ ككَلامِ غيرِهِ، فاللهُ كما أنَّ له قُدرَة واحِدَة وعِلْما واحدا وسَمْعا واحدا وبصرا واحدا، له كلامٌ واحدٌ هو أمرٌ ونَهيٌ ووَعْدٌ ووَعِيدٌ وخَبَرٌ واسْتِخْبار.
وفي قولِ أبي حنيفةَ هذا نفيٌ الكَيفيّةِ عن كلامِ الله الذي هو صفتُهُ الأزلية يُفهَمُ ذلك مِنْ قولِهِ (واللهُ يتكلّمُ بلا ءالةٍ ولا حرف) والآلةُ هي مَخارِجُ الحروفِ كاللّسانِ والشّفَتين، فالإنسانُ إذا أرادَ أنْ ينطِقَ بالحرْفِ الشَّفَويِّ كالميمِ والباءِ لا يستطيعُ ذلك إلا بإطباقِ الشَّفَتين لأنَّ اللهَ تعالى جَعَلَ ءالةَ النطقِ بالحرفِ الشَّفَويِّ في الإنسانِ الشَّفَتَين، فلو كانَ اللهُ مُتَكَلِّمًا كما يتكلَّمُ الإنسَانُ لصَارَ مُشبِهًا لهُ واللهُ يقول (ليس كمثله شىء وهو السميع البصير).