إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد: 

قالَ الإمام أبو حنيفةَ رضيَ اللهُ عنه في الفقه الأكبر:
 
أصلُ التوحيدِ وما يصحُ الاعتقادُ عليهِ، يجبُ أنْ يقولَ ءامنتُ باللهِ، وملائِكتِهِ، وكتبِهِ، ورُسُلِهِ، والبعثِ بعدَ الموتِ والقدرِ خيرِهِ وشرِّهِ منَ اللهِ تعالى، والحسابِ، والميزانِ، والجنةِ، والنارِ، وذلكَ حقٌ كُلُّهُ، واللهُ تعالى واحدٌ لا مِنْ طريقِ العددِ، ولكنْ من طريقِ أنهُ لا شريكَ لهُ، لم يَلِدْ ولم يُولدْ، ولم يكنْ لهُ كفُوًا أحَد، لا يُشبِهُ شيئًا مِنَ الأشياءِ مِنْ خَلقِهِ، ولا يشبِهُهُ شىءٌ مِن خلقِهِ، لم يزلْ ولا يزالُ بأسمائِهِ وصفاتِهِ الذاتيةِ والفِعليّةِ.
 
أما الذاتيةُ فالحياةُ والقدرةُ والعلمُ والكلامُ والسمعُ والبصرُ والإرادةُ.
 
وأما الفعليةُ فالتخليقُ والتـرزيقُ والإنشاءُ والإبداعُ والصنعُ، وغيرُ ذلكَ من صفاتِ الفعلِ، لم يزلْ ولا يزالُ بصفاتِهِ، وأسماؤُهُ صفةٌ لهُ، لم يحدُثْ لهُ صفةٌ ولا اسمٌ، لم يزلْ عالـمًـــا بعلمِهِ، والعلمُ صفتُهُ في الأزلِ. قادرًا بقدرتِهِ، والقدرةُ صفةٌ لهُ في الأزَلِ، وخالِقًا بتخليقِهِ، والتخليقُ صفةٌ لهُ في الأزلِ، وفاعلاً بفعلِهِ، والفعلُ صفةٌ لهُ في الأزلِ، والفاعلُ هوَ اللهُ تعالى، والفعلُ صفتُهُ في الأزلِ، والمفعولُ مخلوقٌ، وفعلُ اللهِ تعالى غيرُ مخلوقٍ [1]، وصفاتُهُ في الأزلِ غيرُ محدثةٍ ولا مخلوقةٍ، فمن قالَ إنها مخلوقةٌ أو محدثةٌ أو وقفَ أو شكَ فيها فهوَ كافرٌ باللهِ [2]، والقرءانُ كلامُ اللهِ تعالى في المصاحِفِ مكتوبٌ، وفي القلوبِ محفوظٌ، وعلى الألسُنِ مقروءٌ، وعلى النبيِّ عليهِ الصلاةُ والسلامُ مُنـــزَّلٌ، ولفظُنا بالقرءانِ مخلوقٌ، وكتابتُنا لهُ مخلوقةٌ، وقراءتُنا لهُ مخلوقةٌ، والقرءانُ غيرُ مخلوقٍ [3]، وما ذكرَهُ اللهُ في القرءانِ حكايةً عن موسى وغيرِهِ منَ الأنبياءِ، وعن فِرْعَوْنَ وإبليسَ، فإنَّ ذلك كلَه كلامُ اللهِ تعالى إخبارًا عنهم، وكلامُ اللهِ تعالى غيرُ مخلوقٍ وكلامُ موسى وغيرِهِ منَ المخلوقينَ مخلوقٌ، والقرءانُ كلامُ اللهِ تعالى فهوَ قديمٌ، لا كلامُهُم، وسمِعَ موسى كلامَ اللهِ تعالى (وكلَّمَ اللهُ موسى تكليمًا) [4] وقدْ كانَ اللهُ تعالى متكلمًا، ولم يكنْ كلمَ موسى، وقدْ كانَ اللهُ تعالى خالقًا في الأزلِ ولم يخلقْ الخلقَ (ليسَ كمثلِهِ شىءٌ وهوَ السميعُ البصيرُ) [5] فلما كلمَ اللهُ موسى، كلمَهُ بكلامِهِ الذي هوَ لهُ صفةٌ في الأزلِ، وصفاتُهُ كلُها بخلافِ صفاتِ المخلوقينَ، يعلمُ لا كعلمِنا، يَقْدِرُ لا كقدرَتِنا، يَرَى لا كرؤيَتِنا، يتكلمُ لا ككلامِنا، ويسمعُ لا كسمعِنا، نحنُ نتكلمُ بالآلاتِ والحروفِ، واللهُ تعالى يتكلمُ بلا حروفٍ ولا آلةٍ، والحروفُ مخلوقةٌ، وكلامُ اللهِ تعالى غيرُ مخلوقٍ، وهو شىءٌ لا كالأشياءِ [6]، ومعنى الشىءِ إثباتُهُ بلا جسمٍ ولا جوهرٍ ولا عَرَضٍ، ولا حدَّ لهُ، ولا ضدَّ لهُ، ولا ندَّ له، ولا مِثلَ لهُ، ولهُ يدٌ ووجهٌ ونفسٌ كما ذكرَهُ اللهُ تعالى في القرءانِ، فما ذكرَهُ اللهُ تعالى في القرءانِ، منْ ذكرِ الوجهِ واليدِ والنفسِ فهو لهُ صفةٌ بلا كيفٍ، ولا يقالُ إنّ يدَهُ قدرتُهُ أو نعمتُهُ، لأنَّ فيهِ إبطالُ الصفةِ، وهوَ قولُ أهلِ القَدَرِ والإعتزالِ، ولكنْ يدُهُ صفتُهُ بلا كيفٍ، وغضبُهُ ورضاهُ صفتانِ من صفاتِهِ بلا كيفٍ. خلقَ اللهُ تعالى الأشياءَ لا منْ شىءٍ [7]، وكانَ اللهُ تعالى عالـمـًا في الأزَلِ بالأشياءِ قبلَ كونِـها، وهوَ الذي قدّرَ الأشياءَ وقضاها، ولا يكونُ في الدنيا ولا في الآخرةِ شىءٌ إلا بمشيئتِهِ وعلمِهِ وقضائِهِ [8] وقدرِهِ [9] وكتْبِهِ في اللوحِ المحفوظِ ولكنْ كتبُهُ بالوصفِ لا بالحكمِ، والقضاءُ والقدرُ والمشيئةُ صفاتُهُ في الأزلِ بلا كيفٍ، يعلمُ اللهُ تعالى المعدومَ في حالِ عدمِهِ معدومًا، ويعلمُ أنهُ كيفَ يكونُ إذا أوجدَهُ، ويعلمُ اللهُ تعالى الموجودَ في حالِ وجودِهِ موجودًا، ويعلمُ أنهُ كيفَ يكونُ فناؤُهُ، ويعلمُ اللهُ تعالى القائمَ في حالِ قيامِهِ قائمًا، وإذا قَعَدَ عَلِمَهُ قاعدًا في حالِ قعودِهِ منْ غيرِ أنْ يتغيرَ علمُهُ، أو يحدُثَ لهُ علمٌ، ولكنّ التغيُرُ واختلافَ الأحوالِ يحدثُ في المخلوقينَ.
 
خلقَ الخَلْقَ سليمًا منَ الكفرِ والإيمانِ [10]، ثمَّ خاطبَهُم وأمرهُم ونهاهُم، فكفرَ منْ كفَرَ بفعلِهِ وإنكارِهِ وجحودِهِ الحقَّ بخِذلانِ اللهِ تعالى إياهُ، وءامنَ منْ ءامنَ بفعلِهِ وإقرارِهِ وتصديقِهِ بتوفيقِ اللهِ تعالى إياهُ ونصرتِهِ لهُ، أخرجَ ذريةَ ءادمَ عليهِ السلامُ من صُلبِهِ على صُوَرِ الذَّرِ، فجعَلَ لهم عقلاً [11]، فخاطبَهُم وأمرَهُم بالإيمانِ ونهاهُم عن الكفرِ فقالَ (ألستُ بربِكُم)؟ فأقروا لهُ بالربوبيةِ فكانَ ذلكَ منهُم إيمانًا، فهُم يولدونَ على تلكَ الفطرةِ [12]، ومنْ كفرَ بعدَ ذلكَ فقدْ بدّلَ وغيّرَ، ومَنْ ءامنَ وصدّقَ فقدْ ثبتَ عليهِ وداومَ، ولم يُجبِرْ أحدًا من خلقِهِ على الكفرِ ولا على الإيمانِ، ولا خلقَهُم مؤمنًا ولا كافرًا، ولكنْ خلقَهُم أشخاصًا [13]، والإيمانُ والكفرُ فعلُ العبادِ، يعلمُ اللهُ تعالى مَنْ يكفرْ في حالِ كفرِهِ كافرًا فإذا ءامنَ بعدَ ذلكَ علمَهُ مؤمنًا في حالِ إيمانِهِ [14]، من غيرِ أنْ يتغيرَ علمُهُ وصفتُهُ، وجميعُ أفعالِ العبادِ منَ الحركةِ والسكونِ كسبُهُم على الحقيقةِ، واللهُ تعالى خالقُها، وهيَ كلُها بمشيئتِهِ وعلمِهِ وقضائِهِ وقَدَرِهِ. والطاعاتُ كلُها ما كانتْ واجبةً بأمرِ اللهِ تعالى وبمحبتهِ وبِرِضائهِ وعلمِهِ ومشيئتِهِ وقضائِهِ وتقديرهِ، والمعاصي كلُّها بعلمِهِ وقضائِهِ وتقديرِهِ ومشيئتِهِ لا بمحبتِهِ ولا برضائِهِ ولا بأمرِهِ.
 
والأنبياءُ عليهِمُ الصلاةُ والسلامُ كلُّهُم منــزّهونَ عن الصغائِرِ والكبائِرِ والكفرِ والقبائِحِ [15] وقدْ كانتْ منهُم زلاتٌ وخطيئاتٌ، ومحمدٌ رسولُ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وعلى ءالهِ وسلمَ، نبيُّهُ وعبدُهُ ورسولُهُ وصفيُهُ، ولم يعبدِ الصنمَ، ولم يشركْ باللهِ طرفةَ عينٍ قطّ، وأفضلُ الناسِ بعدَ رسولِ اللهِ صلى اللهُ تعالى عليهِ وعلى ءالهِ وسلمَ أبو بكرٍ الصديقُ رضيَ اللهُ عنهُ، ثم عمرُ بنُ الخطابِ ثمَّ عثمانُ بنُ عفانَ ثم عليُّ بنُ أبي طالبٍ، رضوانُ اللهِ تعالى عليهِم أجمعين. غابرينَ على الحقِّ، ومعَ الحقِّ، كما كانوا نتولاهُم جميعًا.
ولا نذكرُ الصحابةُ (وفي نسخة ولا نذكرُ أحدًا من أصحابِ رسولِ اللهِ) إلا بخير، ولا نكفرُ مسلمًا بذنبٍ منَ الذنوبِ [16] وإنْ كانتْ كبيرةً إذا لم يستحِلَّهَا، ولا نزيلُ عنهُ اسمَ الإيمانِ ونسمِّيهِ مؤمنًا حقيقةً، ويجوزُ أنْ يكونَ مؤمنًا فاسقًا غيرَ كافرٍ.
 
والمسحُ على الخفينِ سنةٌ، والتراويحُ في شهرِ رمضانَ سنةٌ [17]، والصلاةُ خَلفَ كلِّ بَرٍ وفاجِرٍ من المؤمنينَ جائزةٌ، ولا نقولُ إنَّ المؤمنَ لا تضُرُهُ الذنوبُ، وإنهُ لا يدخلُ النارَ، ولا إنهُ يخلدُ فيها وإنْ كانَ فاسقًا بعدَ أنْ يخرجَ منَ الدنيا مؤمنًا، ولا نقولُ إنَّ حسناتِنا مقبولةٌ، وسيئاتِنا مغفورةٌ كقولِ المُرجِئَةِ ولكنْ نقولُ المسئلَةُ مُبَيَّنَةٌ مفصّلَةٌ منْ عَمِلَ حسنةً بشرائِطِها خاليةً عنِ العيوبِ المفسِدَةِ والمعاني المبطِلَةِ، ولم يبطِلْها حتى خرجَ منَ الدُّنيا، فإنَّ اللهَ تعالى لا يُضَيِّعُها بلْ يقبَلُها منهُ ويثيبُهُ عليها، وما كانَ منَ السيئاتِ دونَ الشركِ والكفرِ ولمْ يتبْ عنها حتى ماتَ مؤمنًا فإنّهُ في مشيئةِ اللهِ تعالى إنْ شاءَ عذَّبَهُ، وإنْ شاءَ عفا عنهُ ولم يعذِّبْهُ بالنارِ أبدًا.
والرياءُ إذا وَقَعَ في عملٍ منَ الأعمالِ فإنّهُ يُبْطِلُ أجرَهُ، وكذا العُجْبُ. والآياتُ للأنبياءِ والكراماتُ للأولياءِ حقٌ. وأما التي تكونُ لأعدائِهِ مثلِ إبليسَ وفِرْعَوْنَ والدجالِ مما رويَ في الأخبارِ أنهُ كانَ لهم فلا نسمّيها ءاياتٍ ولا كراماتٍ، ولكنْ نسمِّيها قَضاءَ حاجاتٍ لهم، وذلكَ لأنَّ اللهَ تعالى يقضِي حاجاتِ أعدائِهِ استدراجًا وعقوبَةً لهم، ويزدادونَ عصيانًا أو كفرًا، وذلكَ كلُّهُ جائِزٌ وممكِنٌ، وكانَ اللهُ خالقًا قبلَ أنْ يَخْلُقَ، ورازقًا قبلَ أنْ يَرزُقَ، واللهُ تعالى يُرَى في الآخرَةِ، ويَراهُ المؤمنونَ وهُم في الجنةِ بأعينِ رؤوسِهِم [18] بلا تشبيهٍ ولا كيْفِيَّةٍ ولا جِهَةٍ [19] ولا يكونُ بينَهُ وبينَ خَلقِهِ مسافَةٌ.
 
والإيمانُ هوَ الإقرارُ والتصديقُ، وإيمانُ أهلِ السماءِ والأرضِ لا يزيدُ ولا ينقُصُ [20] والمؤمنونَ مستوونَ في الإيمانِ [21] والتوحيدِ متفاضلونَ في الأعمالِ، والإسلامُ هو التسليمُ والانقيادُ لأوامِرِ اللهِ تعالى ففي طريقِ اللغةِ فرقٌ بينَ الإيمانِ والإسلامِ ولكنْ لا يكونُ إيمانٌ بلا إسلامٍ، ولا إسلامٌ بلا إيمانٍ [22]، فهما كالظهرِ معَ البطنِ. والدينُ اسمٌ واقعٌ على الإيمانِ والإسلامِ والشرائعِ كُلِّها، نعرفُ اللهَ تعالى حقَّ معرفتِهِ [23] كما وصفَ نفسَهُ وليس يَقْدِرُ أحدٌ أنْ يعبدَ اللهَ تعالى حقَّ عبادتِهِ كما هوَ أهلٌ له، لكنّهُ يعبدُهُ بأمرِهِ كما أمَرَ، ويستوي المؤمنونَ كلُّهُمْ في المعرفةِ واليقينِ والتوكلِ والمحبةِ والرضاء والخوفِ والرجاءِ والإيمانِ [24]، ويتفاوتونَ فيما دونَ الإيمانِ في ذلكَ كلهِ.
 
واللهُ تعالى متفضلٌ على عبادِهِ، عادلٌ، قدْ يُعطِي منَ الثوابِ أضعافَ ما يستوجِبُهُ العبدُ تفضلاً منهُ، وقدْ يُعاقِبُ على الذنبِ عدلاً منهُ، وقدْ يَعفو فضلاً منهُ.
وشفاعةُ الأنبياءِ عليهمُ الصلاةُ والسلامُ حقٌ، وشفاعَةُ نبينا صلى اللهُ تعالى عليهِ وعلى ءالهِ وسلمَ للمؤمنينَ المذنبينَ ولأهلِ الكبائرِ منهُم المستوجبينَ للعقابِ حقٌ ثابتٌ.
ووزنُ الأعمالِ بالميزانِ يومَ القيامةِ حقٌ، والقِصاصُ فيما بينَ الخصومِ يومَ القيامةِ فإنْ لم يكنْ لهم الحسناتُ، طَرْحُ السيئاتِ عليهِم جائزٌ وحقٌ، وحوضُ النبيِّ صلى اللهُ تعالى عليهِ وسلمَ حقٌ، والجنةُ والنارُ مخلوقتانِ اليومَ لا تفنيانِ أبدًا، واللهُ تعالى يهدِي منْ يشاءُ فضلاً منهُ، ويُضِلُّ منْ يشاءُ عدلاً منهُ، وإضلالُهُ خِذلانُهُ، وتفسيرُ الخِذلانِ أنْ لا يوَفِّقَ العبدَ إلى ما يرضاهُ منْهُ، وهوَ عدلٌ منهُ، وكذا عقوبةُ المخذولِ على المعصيةِ.
ولا نقولُ إنَّ الشيطانَ يسلُبُ الإيمانَ مِنْ عبدِهِ المؤمنِ قهرًا وجبرًا، ولكنْ نقولُ العبدُ يدَعُ الإيمانَ فإذا ترَكَهُ فحينئذٍ يسلبُهُ منهُ الشيطانُ.
وسؤالُ منكرٍ ونكيرٍ في القبرِ حقٌ، وإعادَةُ الروحِ إلى العبدِ في قبرِهِ حقٌ. وضغطةُ القبرِ حقٌ (للكفارِ ولبعضِ أهلِ الكبائِرِ منَ المسلمينَ) وعذابُهُ (أي في القبرِ) حقٌ كائنٌ للكفارِ كلِهِم ولبعضِ (أهلِ الكبائِرِ منْ عصاةِ) المسلمينَ.
وكلُّ ما ذكرَهُ العلماءُ بالفارسيَةِ منْ صفاتِ اللهِ تعالى عزتْ أسماؤُهُ وتعالتْ صفاتُهُ فجائزٌ القولُ بهِ، سوَى اليدِ بالفارِسِيّةِ [25]، ويجوزُ أنْ يقالَ (بُرُوْى خُدَا) بلا تشبيهٍ ولا كيفيةٍ.
وليسَ قربُ اللهِ تعالى ولا بُعدُهُ منْ طريقِ طولِ المسافةِ وقِصَرِها ولا (وفي نسخة ولكن) على معنى الكرامةِ والهوانِ، ولكنْ المطيعُ قريبٌ منهُ بلا كيفٍ، والعاصي بعيدٌ عنهُ بلا كيفٍ.
والقُربُ والبُعدُ والإقبالُ يقعُ على المنَاجي، وكذلكَ جِوارُهُ في الجنةِ، والوُقوفُ بينَ يَدَيهِ بلا كيفٍ [26]، والقرءانُ منَــزَّلٌ على رسولِ اللهِ وهو في المُصْحَفِ مكتوبٌ، وءاياتُ القرءانِ كلُّهَا في معنى الكلامِ مستويةٌ في الفضيلَةِ والعظَمَةِ، إلا أنَّ لبعضِهَا فضيلَةُ الذكرِ وفضيلَةُ المذكورِ مثلُ ءايةِ الكُرسي، لأنَّ المذكورَ فيها جلالُ اللهِ وعظمتُهُ وصِفَتُهُ، فاجتمعتْ فيها فضيلَتانِ فضيلةُ الذكرِ، وفضيلَةُ المذكورِ، وفي صفَةِ الكفارِ فضيلَةُ الذِّكرِ فحَسبُ، وليسَ في المذكورِ وهُمُ الكفارُ فضيلةٌ، وكذلكَ الأسماءُ والصفاتُ كُلُّها مستويةٌ في الفضيلةِ والعظمةِ لا تفاوُتَ بينَهُما.
ورسولُ اللهُ صلى اللهُ تعالى عليهِ وسلمَ ماتَ على الإيمانِ، وأبو طالِبٍ عمُّهُ وأبو عليٍ ماتَ كافِرًا، وقاسمٌ وطاهِرٌ وإبراهيمُ كانوا بَنِي رسولِ اللهِ صلى اللهُ تعالى عليهِ وعلى ءالهِ وسلمَ، وفاطِمَةُ وزيْنَبُ ورُقَيَّةُ وأمُّ كُلثومَ كُنَّ جميعًا بناتِ رسولِ اللهِ صلى اللهُ تعالى عليهِ وعلى ءالهِ وسلمَ ورضيَ عَنْهُنَّ.
وإذا أشكلَ على الإنسانِ شىءٌ مِنْ دقَاِئِق علمِ التوحيدِ فينبغِي لهُ أنْ يعتَقِدَ في الحالِ ما هوَ الصوابُ عندَ اللهِ تعالى، إلى أنْ يجِدَ عالـمًا فيسألُهُ، ولا يسعُهُ تأخيرُ الطَلَبِ، ولا يُعْذَرُ بالوقفِ فيهِ، ويَكفُرُ إنْ وَقَفَ [27].
وخَبَرُ المعراجِ حقٌ [28]، فمنْ ردَّهُ فهوَ ضالٌ مبتدِعٌ. وخروجُ الدجالِ، يأجوجَ ومأجوجَ، وطلوعُ الشمسِ منْ مغرِبِها، ونزولُ عيسى عليهِ السلامُ منَ السماءِ، وسائِرِ علامَاتِ يومِ القيامَةِ على ما وَرَدَتْ بهِ الأخبارُ الصحيحةُ حقٌ كائِنٌ، واللهُ يَهدي مَنْ يشاءُ إلى صِراطٍ مُستقيمٍ. انتهى كتابُ الفقهُ الأكبَرُ للإمامِ أبي حنيفةَ رضيَ اللهُ عنْهُ.
 
[1] يعني أنَّ المخلوقاتِ حادثةٌ أما خَلقُهُ لها أزليٌ، أي أنَّ صفَةَ التخليقِ القائمَةَ بذاتِ اللهِ تعالى أزليةٌ فيخلُقُ الحادثاتِ في الوقتِ الذي عَلِمَ وجودَها فيهِ.
 
[2] مَنْ وَصَفَهُ بحياةٍ حادِثَةٍ أو شَكَّ في ذلكَ فهوَ كافِرٌ وكذلكَ من اعتقَدَ أنَّ علمَهُ وقدرَتَهُ وكلامَهُ حادِثٌ فهوَ كافرٌ وكذلكَ مَنْ شَكَّ في ذلكَ ومَنْ توقَفَ أي قالَ إنها ليستْ قديمَةً ولا حادِثَةً هذا أيضاً كافرٌ.
 
[3] القرءانُ غيرُ مخلوقٍ أي كلامُ اللهِ الذاتيِّ الأزليِّ الأبدِيِّ الذي ليسَ بحرفٍ ولا صوتٍ ولا لغةٍ.
 
[4] سورة النساء ءاية 164.
 
[5] سورة الشورى ءاية 11.
 
[6] معناهُ يجوزُ أنْ يقالَ اللهُ شىءٌ أي موجودٌ وهذا معنى الشىءِ عندَ أهلِ السنةِ وليسَ معنى الشىءِ عبارَةٌ عنْ مخلوقٍ كما يتوهَمُ كثيرٌ من الجهالِ.
 
[7] لا منْ شىءٍ معناهُ أخرجَهُ مِنَ العدمِ، الماءُ هوَ الذي أخرجَهُ منَ العدَمِ بلا أصلٍ أما ما بعدَهُ أخرجَهُ منَ العدمِ منَ الماءِ مِنْ أصلٍ هوَ الماءُ هذا الكلامُ لا يتنافى أنَّ الماءَ أصلُ الأشياءِ.
 
[8] قضائِهِ هنا معناهُ خلقَهُ أي إخراجُهُ مِنَ العَدَمِ.
 
[9] أما القَدَرُ فهوَ التقديرُ، القَدَرُ غيرُ القضاءِ.
 
[10] أولُ خروجِهِ منَ العدَمِ ما كانَ يَتَصَوّرُ شيئًا، بعدَ أنْ خلقَهُ على الأصلِ جعَلَ فيهِ الإيمانَ فيمنْ شاءَ والكفرُ بعدَ أنْ وُجَدَ هذا العبدُ خَلقَ فيهِ الكفرَ أولُ ما يخرجُ ما كانَ على الكفرِ أولُ ما يُوجَدُ ما كانَ فيهِ كفرٌ ولا كانَ شاعرًا بالإيمانِ هوَ لما يُوجَدُ أولُ ما يُخْلَقُ لمّا يُخلقُ ما كانَ متصوِّرًا للإيمانِ كانَ خاليًا من تَصَوِّرِ الإيمانِ ومنْ تصورِ الكفرِ.
 
[11] في نسخةٍ أخرَى (جَعَلَهُم عقلاءَ).
 
[12] لما يخرجونَ منَ البطنِ لا يَتَصَوَّرُونَ هذا ولا هذا.
 
[13] قولُهُ خلقَهُم أي أوجدَهُم.
 
[14] معنى ذلكَ اللهُ عَلِمَ في الأزَلِ أنَّ هذا العبدَ لما يؤمنُ أنهُ مؤمنٌ ثم لما يكفُرُ أنهُ كافرٌ في الأزلِ علمَ هذا، وهذا عَلِمَ حالَ كونِهِ مؤمناً وحالَ كونِهِ كافرًا في الأَزَلِ.
 
[15] لعَلَ رأيَهُ يعنى أنَّ بعدَ النبوةِ منـزهونَ عنِ الصغائِرِ والكبائِرِ كما يقولُ الشيخُ أبو الحسنِ الأشعريِّ هذا خلافُ قولِ الآخرينَ أنّهُ تجوزُ عليهِمُ الصغائِرُ بعدَ النبوةِ التي ما فيها لا خسةٌ ولا دناءَةٌ، الصغائرُ التي فيها خِسةٌ ودناءةٌ لا تجوزُ عليهِم لا عندهُ ولا عندَ غيرهِ، عندَ من جوّزَ يُحمَلُ على غيرِهِ وهوَ لعلَ مرادَهُ بعدَ النبوةِ أما ما قبلَ النبوةِ فليسَ عندَهُ نصٌ أنهُ لا تحصُلُ منهُ الصغائِرُ التي هي غيرُ صغائرِ الخسةِ، في كتابِهِ هذا عندَهُ لا تجوزُ عليهم، هذا الظاهرُ منْ عبارتِهِ ويحتملُ أنْ يكونَ أرادَ ما بعدَ النبوةِ ويكونَ عندَهُ قيدٌ أنهُ يعني غيرَ صغائِرِ الخسةِ.
 
[16] التي هيَ دونَ الكفرِ.
 
[17] هذا يَنقضُ ما يقولهُ بعضُ الحنفيةِ إنَّ تركَ التراويحِ إثمٌ، بعضٌ منهُم قالوا تركُ التراويحِ إثمٌ، هذا خلافُ قولِ أبي حنيفَةَ.
 
[18] هذهِ مهمَّةٌ كثيرٌ منَ الناسِ إذا قيلَ المؤمنونَ يرَوْنَ اللهَ بعدَ دخولهِم الجنةَ بأعينِ رؤوسِهِم يتوهمونَ منها الجهةَ أي المقابلَةَ إما معَ القربِ وإما معَ البُعدِ وهذا خطرٌ كبيرٌ.
 
[19] وردَ في أحدِ المخطوطاتِ ولا كميةٍ بدلَ جهةٍ، وهذا اختلافُ النسخِ بعضُها كتبَ فيها ولا جهةٍ وهذا المعروفُ عنِ الإمامِ.
 
[20] الإيمانُ لا يزيدُ ولا ينقُصُ عندَ أبي حنيفةَ معناهُ أصلُ الإيمانِ أما وصفُهُ يزيدُ أي منْ حيثُ الوصفُ يزيدُ وينقُصُ هذا مرادُهُ، هوَ يُفَسِّرُ الآياتِ التي فيها زيادةُ الإيمانِ بزيادةِ الوصفِ ليسَ الأصلِ، يقولُ الأصلُ لا يزيدُ ولا ينقُصُ لأنهُ لو كانَ الأصلُ ينقصُ لكانَ كفرًا لأنهُ إذا نقصَ الأصلُ أي ذهبَ حلَّ الكفرُ محلَّهُ هذا مرادُهُ بقولِهِ لا يزيدُ ولا ينقُصُ أما القولُ الآخَرُ فهوَ الأكثرُ يقولونَ الإيمانُ يزيدُ وينقصُ باعتبارِ القوةِ والضعفِ.
 
[21] أي في أصلهِ.
 
[22] معناهُ لا يكونُ الإسلامُ معتبرًا إلا معَ الإيمانِ ولا الإيمانُ معتبرًا إلا معَ الإسلامِ.
 
[23] ومعنى قولِ الإمامِ أبي حنيفةَ (حقَّ معرفتِهِ) أي ما فرضَ اللهُ على العبدِ معرفتَهُ منَ الصفاتِ الواجبِ معرفتُها، ولا أحدَ يعرفُ حقيقةَ اللهِ تعالى إلا اللهُ، قالَ الإمامُ عبدُ الغنيِّ النابلسيُ في كتابِهِ رشَحَاتِ الأقلامِ شرحِ كفايةِ الغلامِ في أركانِ الإسلامِ (العقولُ تعلمُهُ سبحانَهُ منْ وجهِ كونِهِ موجودًا حقًا متصفًا بصفاتِ الكمالِ، منـزهاً عن صفاتِ النقصانِ، ولا تعلمُهُ منْ كلِّ وجهٍ فتعرِفُهُ معرفةَ تصديقٍ بوجودِهِ وذلكَ مقدارُ ما كلَّفَهَا بهِ) وقالَ الإمامُ أحمدُ الرفاعيُ (غايةُ المعرفةِ باللهِ الإيقانُ بوجودِهِ تعالى بلا كيف ولا مكانٍ).
 
[24] أي في أصلِ ذلكَ.
 
[25] بالفارسيةِ كأنهُ عندَهُم اليدُ لا تطلَقُ إلا على الجارِحَةِ أما في اللغةِ العربيةِ تأتي للجارحةِ ولغيرِ الجارحَةِ أي للصفةِ، تأتي بمعنى الجارحةِ والصفةِ لذلكَ بالعربيةِ جازَ أنْ يقالَ يدُ اللهِ أما عندَهُم في لغتِهِم لا يفهمونَ منْ ترجمةِ اليدِ التي يستعملونَها إلا الجارِحَةَ لذلكَ قالَ بالفارسيةِ لا يجوزُ أنْ يقالَ يدُ اللهِ بلغتِهِم.
 
[26] يعني أليسَ شاعَ القولُ إنَّ العبدَ يقفُ بينَ يديِّ اللهِ هذا ليسَ معناهُ أنَّ العبدَ يكونُ عندَ الحسابِ بعيداً منهُ بالمسافةِ لأنَّ القربَ المسافيَ لا يجوزُ عليهِ والـمُقابلةُ لا تجوزُ على اللهِ لأنهُ ليسَ حجمًا لا بدَّ أن يُبَينَ لهم، يقالُ لهم وقوفُ العبادِ للحسابِ في ذلكَ هذا الحسابُ الموقفُ هوَ معناهُ الوقوفُ بينَ يدي اللهِ ليسَ معناهُ أنَّ اللهَ يَنــزِلُ إلى الأرضِ والعبادُ على الأرضِ فيقابلونَهُ فيُكَلِّمَهُم كما يتصوّرُ بعضُ الناسِ، اللهُ ليسَ حجمًا متحيزًا في جهةٍ منَ الجهاتِ لا في العرشِ ولا في غيرهِ ولا هو مُتَحيزٌ في كلِّ الأماكنِ والجهاتِ.
 
[27] معناهُ على ما يخطرُ لهُ منْ أنهُ ظاهرُ ذلكَ الشىءِ حالَمَا يخطرُ لهُ إنْ كانَ جاهلاً بذلكَ الشىءِ، فإنْ وقَفَ عندَهُ واعتقدَهُ يكفرُ. أما إنْ لم يقفْ عندَهُ ومضى لا يكفرُ فيسأَلُ عالـمًا فيفسرَ لهُ ما هذا الشىءُ فيأخذُ ما يفسِّرُ لهُ بهِ العالِمُ.
 
[28] خبرُ المعراجِ ليسَ دليلُهُ قطعيًا كالإسراءِ، الإسراءُ جاءَ في القرءانِ بلفظٍ صريحٍ لذلكَ منكرُهُ يكفرُ ثُمّ هو أكثرُ شيوعًا عندَ المسلمينَ منَ المعراجِ لكنَّ المعراجَ أيضًا منكرُهُ يكفُرُ إنْ كانَ علمَ أنَّ المسلمينَ هذا اعتقادُهُم أمّا إذا لمْ يعتقِدْ أنَّ هذا عقيدَةُ المسلمينَ فأنكرَهُ لا يكفرُ.