إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد: 

الْخُطبةُ الأُولَى:
 
الْحَمْدُ للهِ مُكَوِّنِ الأَكْوَانِ الَّذِي أَيَّدَ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا بِالْمُعْجِزَاتِ الْبَاهِرَةِ وَالدِّلاَلاَتِ الظَّاهِرَةِ وَجَعَلَهُ أَفْضَلَ الأَنْبِيَاءِ وَأَكْثَرَهُمْ مُعْجِزَاتٍ وَأَجْمَلَهُمْ خَلْقاً وَخُلُقًا، الْحَمْدُ للهِ خَالِقِ الأَرْضِ وَالسَّمَاءِ وَالصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ عَلَى خَيْرِ مَنْ أَقَلَّتِ الْغَبْرَاءُ وَأَظَلَّتِ الْخَضْرَاءُ مَنْ كَانَتْ لَهُ مُعْجِزَةُ الإِسْرَاءِ وَعُرِجَ بِهِ إِلَى الْعَلْيَاءِ يَطْوِيهَا سَمَاءً إِثْرَ سَمَاءٍ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى كُلِّ رَسُولٍ أَرْسَلَهُ، أَمَّا بَعْدُ أُوصِي نَفْسِي وَإِيَّاكُمْ بِتَقْوَى اللهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ فَاتَّقُوهُ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ فِي الْقُرْءَانِ الْكَريِمِ ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ ءايَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾.
 
إِخْوَةَ الإيِمَانِ، تَطُلُّ عَلَيْنَا فِي هَذِهِ الأَيَّامِ ذِكْرَى عَظِيمَةٌ تَدُلُّ عَلَى جَلاَلَةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعُلُوِّ قَدْرِهِ وَرِفْعَةِ شَأْنِهِ وَهِيَ مُعْجِزَةُ الإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ الَّتِي أَكْرَمَ اللهُ تَعَالَى بِهَا نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ فَهِيَ مِنْ جُمْلَةِ مُعْجِزَاتِهِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي زَادَ اللهُ تَعَالَى بِهَا نَبِيَّهُ تَشْرِيفًا.
 
عِبَادَ اللهِ، لَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَكَّةَ فِي بَيْتِ بِنْتِ عَمِّهِ أُمِّ هَانِىءٍ أُخْتِ سَيِّدِنَا عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ نَائِمًا بَيْنَ عَمِّهِ حَمْزَةَ وَابْنِ عَمِّهِ جَعْفَرَ بنِ أَبِي طَالِبٍ، حَيْثُ جَاءَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ فَشَقَّ سَقْفَ الْبَيْتِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِمْ حَجَرٌ أَوْ تُرَابٌ فَأَيْقَظَهُ وَذَهَبَ بِهِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَأَرْكَبَهُ عَلَى الْبُرَاقِ خَلْفَهُ، وَالْبُرَاقُ دَابَّةٌ مِنْ دَوَابِّ الْجَنَّةِ أَبْيَضُ طَوِيلٌ فَوْقَ الْحِمَارِ وَدُونَ الْبَغْلِ وَوَرَدَ أَنَّ النَّبِيَّ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَرْكَبَهُ اسْتَصْعَبَ عَلَيْهِ وَلَيْسَ ذَلِكَ إِبَاءً وَتَمَنُّعًا إِنَّمَا الْبُرَاقَ مِنْ شِدَّةِ فَرَحِهِ أَنَّ النَّبِيَّ سَيَرْكَبَهُ أَصَابَتْهُ هَزَّةٌ وَلَكِنَّ جِبْرِيلَ أَدَارَهُ بِأُذُنِهِ وَقَالَ اثْبُتْ فَلَمْ يَرْكَبْكَ أَكْرَمُ عَلَى اللهِ مِنْ مُحَمَّدٍ، فَرَكِبَهُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ وَانْطَلَقَ بِهِ يَضَعُ حَافِرَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى طَرْفِهِ أَيْ حَيْثُ يَصِلُ نَظَرُهُ يَضَعُ رِجْلَهُ، كُلُّ خَطْوَةٍ مِنْ خَطَوَاتِهِ تَسَعُ إِلَى مَدِّ الْبَصَرِ، أَمْرُ الْبُرَاقِ مِنَ الْعَجَائِبِ الْمُخَالِفَةِ لِلْعَادَةِ.
 
وَقَدْ مَرَّ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ فِي إِسْرَائِهِ بِالْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ وَلَمْ يَكُنْ قَدْ هَاجَرَ إِلَيْهَا بَعْدُ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَكَذَلِكَ فَعَلَ فِي طُورِ سَيْنَاءَ حَيْثُ كَانَ مُوسَى لَمَّا سَمِعَ كَلاَمَ اللهِ وَكَذَلِكَ فِي مَدْيَنَ بَلَدِ نَبِيِّ اللهِ شُعَيْبٍ وَفِي بَيْتِ لَحْمٍ حَيْثُ وُلِدَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ.
وَقَدْ رَأَى النَّبِيُّ فِي إِسْرَائِهِ عَجَائِبَ كَثِيرَةً مِنْهَا أَنَّهُ رَأَى الدُّنْيَا بِصُورَةِ عَجُوزٍ وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ فَاتَ مِنْ عُمُرِ الدُّنْيَا أَكْثَرُ مِمَّا بَقِيَ فَالآخِرَةُ قَرِيبَةٌ فَمَطْلُوبٌ أَنْ يَسْتَعِدَّ الإِنْسَانُ لَهَا.
 
كَذَلِكَ رَأَى إِبْلِيسَ مُتَنَحِيًّا عَنِ الطَّرِيقِ، وَرَأَى الْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ يَزْرَعُونَ وَيَحْصُدُونَ فِي يَوْمَيْنِ وَرَأَى خُطَبَاءَ الْفِتْنَةِ الَّذِينَ يَدْعُونَ لِلضَّلاَلِ وَالْفَسَادِ تُقْرَضُ أَلْسِنَتُهُمْ وَشِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ أَيْ بِمِقَصَّاتٍ مِنْ نَارٍ.
وَرَأَى قَوْمًا ترضَخُ رُؤُوسُهُمْ أَيْ تُكْسَرُ بِالْحِجَارَةِ ثُمَّ تَعُودُ كَمَا كَانَتْ وَهُمُ الَّذِينَ تَتَثَاقَلُ رُؤُوسُهُمْ عَنْ تَأْدِيَةِ الصَّلاَةِ.
وَرَأَى كَيْفَ يَكُونُ حَالُ الَّذِي يَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ الْفَاسِدَةِ وَحَالُ الَّذِينَ لاَ يُؤَدُّون الزَّكَاةَ وَحَالُ الزُّنَاةِ والَّذِينَ لاَ يُؤَدُّونَ الأَمَانَةَ وَءَاكِلِي الرِّبَا وَءَاكِلِي أَمْوَالَ الْيَتَامَى وَشَارِبِي الْخَمْرَ.
وَرَأَى أُنَاسًا يَخْمِشُونَ وُجُوهَهُمْ وَصُدُورَهُمْ بِأَظْفَارٍ نُحَاسِيَّةٍ وَهُمُ الَّذِينَ يَغْتَابُونَ النَّاسَ.
 
وَشَمَّ رَائِحَةً طَيِّبَةً مِنْ قَبْرِ مَاشِطَةِ بِنْتِ فِرْعَوْنَ وَكَانَتْ مُؤْمِنَةً صَالِحَةً وَجَاءَ فِي قِصَّتِهَا أَنَّهَا بَيْنَمَا كَانَتْ تَمْشُطُ رَأْسَ بِنْتِ فِرْعَوْنَ سَقَطَ الْمِشْطُ مِنْ يَدِهَا فَتَنَاوَلَتْهُ وَهِيَ تَقُولُ بِسْمِ اللهِ، فَسَأَلَتْهَا بِنْتُ فِرْعَوْنَ: أَوَ لَكِ رَبٌّ إِلَهٌ غَيْرُ أَبِي، لأَنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ يَقُولُ لِلنَّاسِ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى، وَكَانَ يَقُولُ: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي، فَقَالَتِ الْمَاشِطَةُ رَبِّي وَرَبُّ أَبِيكِ هُوَ اللهُ، فَقَالَتْ أَأُخْبِرُ أَبِي بِذَلِكَ، قَالَتْ أَخْبِرِيهِ، فَأَخْبَرَتْهُ فَطَلَبَ مِنْهَا الرُّجُوعَ عَنْ دِينِهَا فَأَبَتْ فَحَمَّى لَهَا مَاءً حَتَّى صَارَ شَدِيدَ الْحَرَارَةِ فَأَلْقَى فِيهِ أَوْلاَدَهَا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ ثُمَّ لَمَّا جَاءَ الدَّوْرُ إِلَى طِفْلٍ كَانَتْ تُرْضِعُهُ بَكَتْ فَأَيَّدَهَا اللهُ بِكَرَامَةٍ وَأَنْطَقَ الرَّضِيعَ فَقَالَ يَا أُمَّاهُ اصْبِرِي فَإِنَّ عَذَابَ الآخِرَةِ أَشَدُّ مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا فَلاَ تَتَقَاعَسِي فَإِنَّكِ عَلَى الْحَقِّ فَتَجَالَدَتْ، فَرَمَى الطِّفْلَ فَلَمَّا جَاءَ دَوْرُهَا قَالَتْ لِفِرْعَوْنَ لِي عِنْدَكَ طَلَبٌ أَنْ تَجْمَعَ الْعِظَامَ وَتَدْفِنَهَا فَقَالَ لَكِ ذَلِكَ، وَأَلْقَاهَا حَيَّةً فِي الْمَاءِ فَمَاتَتْ شَهِيدَةً ثُمَّ لَمَّا كَانَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ فِي الإِسْرَاءِ أَكْرَمَهَا اللهُ وَانْبَعَثَتْ مِنْ قَبْرِهَا الرَّائِحَةُ الطَّيِّبَةُ كَأَنَّهَا تُحَيِّي رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
 
إِخْوَةَ الإيِمَانِ، لَمَّا وَصَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى فِي فِلَسْطِينَ جَمَعَ اللهُ لَهُ الأَنْبِيَاءَ جَمِيعَهُمْ تَشْرِيفًا لَهُ، فَصَلَّى بِهِمْ إِمَامًا وَفِي ذَلِكَ بَيَانُ أَفْضَلِيَّتِهِ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ عَلَى سَائِرِ الأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ.
 
ثُمَّ نُصِبَ الْمِعْرَاجُ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمِعْرَاجُ مِرْقَاةٌ شِبْهُ السُّلَّمِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ دَرَجَةٌ مِنْهَا مِنْ فِضَّةٍ وَالأُخْرَى مِنْ ذَهَبٍ، فَعَرَجَ بِهَا النَّبِيُّ فَصَارَتْ تُطْوَى لَهُ حَتَّى وَصَلَ السَّمَاءَ الأُولَى فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ فَقِيلَ مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ جِبْرِيلُ، قِيلَ وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ مُحَمَّدٌ، قِيلَ وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ وَمَعْنَاهُ هَلْ بُعِثَ إِلَيْهِ لِلْعُرُوجِ، قَالَ قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، قَالَ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ فَفُتِحَ لَنَا فَإِذَا أَنَا بِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، فَرَحَّبَ بِالنَّبِيِّ وَدَعَا لَهُ بِخَيْرٍ ثُمَّ رَأَى فِي السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ ابْنَيِ الْخَالَةِ عِيسَى وَيَحْيَى وَفِي السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ رَأَى يُوسُفَ، قَالَ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ فِي وَصْفِهِ يُوسُفَ (قَدْ أُعْطِيَ شَطْرَ الْحُسْنِ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ، مَعْنَاهُ أُعْطِيَ نِصْفَ الْجَمَالِ، أَيِ الْجَمَالِ الَّذِي وُزِّعَ بَيْنَ الْبَشَرِ نِصْفُهُ كَانَ لِيُوسُفَ.
 
وَفِي السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ رَأَى إِدْرِيسَ وَفِي الْخَامِسَةِ رَأَى هارُونَ وَفِي السَّادِسَةِ رَأَى مُوسَى وَفِي السَّابِعَةِ رَأَى إِبْرَاهِيمَ وَكَانَ يُشْبِهُ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا مِنْ حَيْثُ الْخِلْقَةُ وَكَانَ مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إِلَى الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ وَهُوَ بَيْتٌ مُشَرَّفٌ فِي السَّمَاءِ كَمَا أَنَّ الْكَعْبَةَ بَيْتٌ مُشَرَّفٌ فِي الأَرْضِ، وَهَذَا الْبَيْتُ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ يُصَلُّونَ فِيهِ ثُمَّ يَخْرُجُونَ مِنْهُ وَلاَ يَعُودُونَ إِلَيْهِ.
 
وَرُفِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى وَهِيَ شَجَرَةٌ عَظِيمَةٌ وَبِهَا مِنَ الْحُسْنِ مَا لاَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مِنَ خَلْقِ اللهِ أَنْ يَصِفَهُ، وَمِنْ حُسْنِهَا وَجَدَهَا الرَّسُولُ يَغْشَاهَا فَرَاشٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْرَاقُهَا كَآذَانِ الْفِيَلَةِ وَثِمَارُهَا كَالْقِلاَلِ.
 
ثُمَّ عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى رَأَى النَّبِيُّ جِبْرِيلَ عَلَى صُورَتِهِ الأَصْلِيَةِ وَكَانَتْ هَذِهِ هِيَ الْمَرَّةُ الثَّانِيَةُ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُ اللهِ تَعَالَى ﴿وَلَقَدْ رَءَاهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى﴾ وَهَذِهِ الآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى الْمِعْرَاجِ لأنَّ مَعْنَاهَا أَنَّ مُحَمَّدًا رَأَى جِبْرِيلَ عَلَى صُورَتِهِ الْحَقِيقِيَّةِ مَرَّةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى وَسِدْرَةُ الْمُنْتَهَى أَصْلُهَا فِي السَّمَاءِ السَّادِسَةِ وَتَمْتَدُّ إِلَى السَّابِعَةِ وَإِلَى مَا فَوْقَ ذَلِكَ، أَمَّا الْمَرَّةُ الأُولَى الَّتِي رَأَى فِيهَا مُحَمَّدٌ جِبْرِيلَ عَلَى صُورَتِهِ الأَصْلِيَّةِ فَكَانَتْ فِي مَكَّةَ عَلَى جَبَلٍ اسْمُهُ أَجْيَاد يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى﴾ مَعْنَاهُ أَنَّ جِبْرِيلَ دَنَا مِنْ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ مِنْ شِدَّةِ الشَّوْقِ فَتَدَلَّى إِلَيْهِ حَتَّى كَانَ مَا بَيْنَهُمَا قَابَ قَوْسَيْنِ أَيْ قَدْرَ ذِرَاعَيْنِ، فَإِنَّهُ يُقَالُ فِي اللُّغَةِ عَنِ الذِّرَاعِ قَوْسٌ لأنَّهُ يُقَاسُ بِهِ، وَلَيْسَ الأَمْرُ كَمَا يَعْتَقِدُ بَعْضُ الْجُهَّالِ أَنَّ اللهَ دَنَا بِذَاتِهِ مِنْ مُحَمَّدٍ فَكَانَ بَيْنَ مُحَمَّدٍ وَبَيْنَ اللهِ كَمَا بَيْنَ الْحَاجِبِ وَالْحَاجِبِ أَوْ بِقَدْرِ ذِرَاعَيْنِ، فَهَذَا كُفْرٌ لأَنَّ فِيهِ اثْبَاتُ الْمَسَافَةِ للهِ وَهَذَا لاَ يَجُوزُ لأَنَّ الْمَسَافَةَ يُوصَفُ بِهَا الْمَخْلُوقُ أَمَّا الْخَالِقُ فَهُوَ مَوْجُودٌ بِلاَ مَكَانٍ وَلاَ يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ مَسَافَةٌ.
 
فَالآيَةُ الْمُرَادُ بِهَا جِبْرِيلُ فَإِنَّهُ ظَهَرَ لِسَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى صُورَتِهِ الأَصْلِيَةِ فَسَدَّ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ فَصُعِقَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيْ غُشِيَ عَلَيْهِ فَأَخَذَهُ جِبْرِيلُ وَقَدْ تَحَوَّلَ إِلَى الصُّورَةِ الْبَشَرِيَّةِ فَضَمَّهُ إِلَيْهِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ يَا جِبْرِيلُ مَا ظَنَنْتُ أَنَّ اللهَ خَلَقَ أَحَدًا عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ، فَقَالَ جِبْرِيلُ إِنَّ اللهَ تَعَالَى خَلَقَنِي عَلَى سِتِّمِائَةِ جَنَاحٍ وَمَا نَشَرْتُ مِنْهَا إِلاَّ جَنَاحَيْنِ وَخَلَقَ إِسْرَافِيلَ عَلَى سِتِّمِائَةِ جَنَاحٍ الْجَنَاحُ مِنْهَا مِثْلُ كُلِّ أَجْنِحَتِي.
 
أَمَّا فِي لَيْلَةِ الْمِعْرَاجِ فَلَمْ يَحْصُلْ لِلنَّبِيِّ غَشْيٌ لَمَّا رَأَى جِبْرِيلَ عَلَى صُورَتِهِ الأَصْلِيَّةِ لأَنَّهُ كَانَ قَدْ غُسِلَ قَلْبُهُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ سَارَ النَّبِيُّ وَحْدَهُ حَتَّى وَصَلَ إِلَى مَكَانٍ يَسْمَعُ فِيهِ صَرِيفَ أَقْلاَمِ الْمَلاَئِكَةِ الَّتِي تَنْسَخُ بِهَا فِي صُحُفِهَا مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَهُناَكَ أَزَالَ اللهُ عَنْهُ الْحِجَابَ الَّذِي يَمْنَعُ مِنْ سَمَاعِ كَلاَمِ اللهِ فَسَمِعَ كَلاَمَ اللهِ الَّذِي لَيْسَ حَرْفًا وَلاَ صَوْتًا وَلاَ لُغَةً لاَ يُشْبِهُ كَلاَمَ الْمَخْلُوقِينَ فَفَهِمَ مِنْهُ فَرْضِيَّةَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَفَهِمَ أَيْضًا أَنَّ مَنْ هَمَّ بِالْحَسَنَةِ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ وَمَنْ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ هَمَّ بِالسَّيِّئَةِ فَعَمِلَهَا كُتِبَتْ سَيِّئَةٌ وَاحِدَةٌ.
 
وَمِنْ جُمْلَةِ مَا رَأَى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ الْعَرْشَ وَحَمَلَةَ الْعَرْشِ وَرَأَى الْجَنَّةَ فَقَالَ دَخَلْتُ الْجَنَّةَ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا الْفُقَرَاء.
 
إِخْوَةَ الإيِمَانِ، لَمْ يَكُنِ الْمَقْصُودُ مِنَ الْمِعْرَاجِ وُصُولُ الرَّسُولِ إِلَى مَكَانٍ يَنْتَهِي فِيهِ وُجُودُ اللهِ كَمَا يَعْتَقِدُ بَعْضُ النَّاسِ وَهَذَا كُفْرٌ لأَنَّ اللهَ مَوْجُودٌ بِلاَ مَكَانٍ، بَلِ الْمَقْصُودُ مِنَ الْمِعْرَاجِ تَشْرِيفُ الرَّسُولِ بِإِطْلاَعِهِ عَلَى عَجَائِبَ فِي الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَتَعْظِيمُ مَكَانَتِهِ وَرُؤْيَتُهُ لِلذَّاتِ الْمُقَدَّسِ بِفُؤَادِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ اللهُ فِي مَكَانٍ.
 
وَرَجَعَ النَّبِيُّ إِلَى مَكَّةَ فَأَخْبَرَ أُمَّ هَانِىءٍ فَخَافَتْ أَنْ يُخْبِرَ قَوْمَهُ حَتَّى لاَ يَزْدَادُوا تَكْذِيبًا لَهُ وَأَذًى، وَهُوَ لاَ يُبَالِي لأَنَّهُ يُرِيدُ تَنْفِيذَ أَمْرِ اللهِ، وَهُوَ أَشْجَعُ خَلْقِ اللهِ قَلْبُهُ ثَابِتٌ مِثْلُ الْجَبَلِ الرَّاسِخِ، حَدَّثَ الْمُشْرِكِينَ فَوَصَلَ الْخَبَرُ لأَبِي جَهْلٍ وَهُوَ رَأْسُهُمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَقَالَ لِلنَّبِيِّ: تُخْبِرُ قَوْمَكَ بِذَلِكَ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ نَعَمْ فَجَمَعَ أَبُو جَهْلٍ النَّاسَ وَقَالَ قُلْ لَهُمْ، فَأَخْبَرَهُمُ النَّبِيُّ وَكَانَ مِنْ بَيْنِهِمْ مَنْ يَعْرِفُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَهُمْ يَعْرِفُونَ أَنَّ النَّبِيَّ قَبْلَ تِلْكَ اللَّيْلَةِ مَا ذَهَبَ إِلَى هُنَاكَ فَقَالُوا مِنْ هُنَا إِلَى هُنَاكَ مَسِيرَةُ شَهْرٍ فَصِفْهُ لَنَا فَوَصَفَهُ لَهُمُ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ بَابًا بَابًا حَتَّى قَالَ الْقَائِلُ:
 
يَا وَاصِفَ الأَقْصَى أَتَيْتَ بِوَصْفِهِ *** وَكَأَنَّكَ الرَّسَّامُ وَالْبَنَّاءُ
 
إِخْوَةَ الإيِمَانِ، لَقَدْ أُسْرِي بِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعُرِجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ عَادَ إِلَى الأَرْضِ كُلُّ ذَلِكَ فِي أَقَلِّ مِنْ نِصْفِ لَيْلَةٍ لِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً﴾ وَمَعْرُوفٌ أَنَّ الإِسْرَاءَ مِنَ السَّيْرِ لَيْلاً وَإِنَّمَا قَالَ تَعَالَى ﴿لَيْلاً﴾ بِلَفْظِ التَّأْكِيدِ لِبَيَانِ تَقْلِيلِ مُدَّةِ الإِسْرَاءِ فَإِنَّهُ أُسْرِي بِهِ فِي بَعْضِ اللَّيْلِ.
 
اللَّهُمَّ انْفَعْنَا بِبَرَكَاتِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَاحْشُرْنَا تَحْتَ لِوَائِهِ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.
 
أَقُولُ هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ.
 
الْخُطبةُ الثانيةُ:
 
الْحَمْدُ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَسْتَهْدِيهِ وَنَشْكُرُه وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَالصَّلاَةُ وَالسَّلاَمُ عَلَى رَسُولِ اللهِ مُحَمَّدٍ، عِبادَ اللَّهِ أُوصِيْ نَفْسِيَ وَإِيَّاكُمْ بِتَقْوَى اللهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ فَاتَّقُوهُ.
 
وَاعْلَمُوا أَيُّهَا الأَحِبَّةُ أَنَّ اللهَ أَمَرَكُمْ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ أَمَرَكُمْ بِالصَّلاَةِ وَالسَّلاَمِ عَلَى نَبِيِّهِ الْكَريِمِ فَقَالَ ﴿إنَّ اللَّهَ ومَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَآ أيُّهَا الذينَ ءامَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ اللَّـهُمَّ صَلِّ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى ءَالِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ علَى سَيّدِنَا إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى ءَالِ سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيمَ وَبَارِكْ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى ءَالِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى ءَالِ سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى ﴿يَآ أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَىْءٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ﴾ (سُورَةَ الْحَجِّ)، اللَّـهُمَّ إِنَّا دَعَوْنَاكَ فَاسْتَجِبْ لَنَا دُعَاءَنَا فَاغْفِرِ اللَّـهُمَّ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا اللَّـهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ رَبَّنَا ءَاتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ اللَّـهُمَّ اجْعَلْنا هُدَاةً مُهْتَدِينَ غَيْرَ ضَالِّينَ وَلاَ مُضِلِّينَ اللَّـهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِنَا وَءَامِنْ رَوْعَاتِنَا وَاكْفِنَا مَا أَهَمَّنَا وَقِنَا شَرَّ مَا نَتَخَوَّفُ.
 
عِبادَ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغِي، يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، اذْكُرُوا اللَّهَ الْعَظِيمَ يَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوهُ يَزِدْكُمْ، وَاسْتَغْفِرُوهُ يَغْفِرْ لَكُمْ وَاتَّقُوهُ يَجْعَلْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مَخْرَجًا، وَأَقِمِ الصَّلاَةَ.