إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد: 

من فُقِدَ زوجها أو انقطع عنها خبره ففيه قولان عند الفقهاء
 
من فقد زوجها أو انقطع عنها خبره ففيه قولان أحدهما أنها تكون على الزوجية إلى أن تتحقق الموت وهو الأصح الجديد في المذهب الشافعي وبه قال من الصحابة علي بن أبي طالب ومن الفقهاء أبو حنيفة والعراقيون.
والثاني وهو القديم أنها تصبر أربع سنين ثم تعتد عدة الوفاة لأن عمر قضى به، رواه البيهقي، ثم تـحل للأزواج في الظاهر وهل تحل في الباطن فيه قولان، وجه عدمه أن عمر لما عاد المفقود مكنه من أخذ زوجته، فلو كانت تحل باطنا لم يمكنه منها وبه قال من الصحابة عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهم ومن الفقهاء مالك والأوزاعي وأحمد وإسحاق إلا أن مالكا فرق بين خروجه ليلا ونهارا فجعله مفقودا إذا خرج ليلا دون النهار. قال ابن قدامة والصحيح أن عموم كلام أحمد يحمل على أنه لا تخيير إلا بعد الدخول، فتكون زوجة الاول رواية واحدة لان النكاح إنما صح في الظاهر دون الباطن، فإذا قدم تبينا أن النكاح كان باطلا، لانه صادف امرأة ذات زوج فكان باطلا كما لو شهدت بينة بموته، وليس عليه صداق لانه نكاح فاسد لم يتصل به دخول، ويعود الزوج بالعقد الاول كما لو لم تتزوج.
 
وفي المغني لابن قدامة (فصل) فإن قدم زوجها الأول قبل أن تتزوج، فهي امرأته، فأما إن قدم بعد أن تزوجت نظرنا فإن كان قبل دخول الثاني بها فهي زوجة الأول ترد إليه ولا شيء قال أحمد أما قبل الدخول فهي امرأته وإنما التخيير بعد) الدخول وهذا قول الحسن وعطاء وخلاس بن عمرو والنخعي وقتادة ومالك وإسحاق.
(إن قدم قبل الدخول) وتعود إلى الزوج بالعقد الأول، كما لو لم تتزوج، وإن قدم بعد دخول الثاني بها، خير الأول بين أخذها فتكون زوجته بالعقد الأول وبين أخذ صداقها وتكون زوجة الثاني وهذا قول مالك لإجماع الصحابة عليه، فعلى هذا إن أمسكها الأول فهي زوجته بالعقد الأول، والمنصوص عن أحمد أنه لا يحتاج الثاني إلى طلاق لأن نكاحه كان باطلا في الباطن، ويجب على الأول اعتزالها حتى تقضي عدتها من الثاني، وإن لم يخترها الأول فإنها تكون مع الثاني ولم يذكروا لها عقدا جديدا، والصحيح أنه يجب أن يستأنف لها عقدا واختلف عن أحمد فيما يرجع به فروي عنه أنه يرجع بالصداق الذي أصدقها هو على هذا إن كان لم يدفع إليها الصداق لم يرجع بشيء وإن كان قد دفع بعضه رجع بما دفع وعن أحمد أنه يرجع عليه بالمهر الذي أصدقها الثاني لأن إتلاف البضع من جهته، والرجوع عليه بقيمته.
 
وفي كتاب الحاوي للماوردي (وروى عبد الرحمن بن أبي ليلى أن امرأة أتت عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فقالت إن زوجي خرج إلى مسجد أهله وفقد فأمرها أن تتربص أربع سنين فتربصت ثم عادت، فقال لها اعتدي أربعة أشهر وعشرا، ففعلت ثم عادت، فقالت قد حللت للأزواج فتزوجت فعاد زوجها فأتى عمر فقال زوجت امرأتي؟ فقال وما ذاك فقال غبت أربع سنين فزوجتها، فقال يغيب أحدكم أربع سنين في غير غزاة ولا تجارة ثم يأتيني فيقول زوجت امرأتي فقال خرجت إلى مسجد أهلي فاستلبني الجن فكنت معهم فغزاهم جن من المسلمين فوجدوني معهم في الأسر، فقالوا ما دينك؟ قلت الإسلام فخيروني بين أن أكون معهم، وبين الرجوع إلى أهلي فاخترت الرجوع إلى أهلي فسلموني إلى قوم فكنت أسمع بالليل كلام الرجال وأرى بالنهار مثل الغبار فأسير في أثره حتى هبطت عندكم فخيره عمر بين أن يأخذ زوجته وبين أن يأخذ مهرها).
 
(باب في المفقود) قال الشافعي أخبرنا مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب قال أيما امرأة فقدت زوجها فلم تدر أين هو فإنها تنتظر أربع سنين ثم تنتظر أربعة أشهر وعشرا قال والحديث الثابت عن عمر وعثمان في امرأة المفقود مثل ما روى مالك عن بن المسيب عن عمر وزيادة فإذا تزوجت فقدم زوجها قبل أن يدخل بها زوجها الآخر كان أحق بها فإن دخل بها زوجها الآخر فالأول المفقود بالخيار بين امرأته والمهر، قال الربيع لا تتزوج امرأة المفقود حتى يأتى يقين موته لأن الله قال (والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا) فجعل على المتوفي عدة وكذلك جعل على المطلقة عدة لم يبحها إلا بموت أو طلاق وهي معنى حديث النبي صلى الله عليه وسلم إذ قال (إن الشيطان ينقر عند عجز أحدكم حتى يخيل إليه أنه قد أحدث فلا ينصرف أحدكم حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا) فأخبر أنه إذا كان على يقين من الطهارة فلا تزول الطهارة إلا بيقين الحدث (1) وكذلك هذه المرأة لها زوج بيقين فلا يزول قيد نكاحها بالشك ولا يزول إلا بيقين وهذا قول علي بن أبي طالب.
 
وجاء في موطأ الإمام مالك رضي الله تعالى عنه، باب عِدَّةِ الَّتِي تَفْقِدُ زَوْجَهَا (حَدَّثَنِي يَحْيَى عَنْ مَالِكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ أَيُّمَا امْرَأَةٍ فَقَدَتْ زَوْجَهَا فَلَمْ تَدْرِ أَيْنَ هُوَ فَإِنَّهَا تَنْتَظِرُ أَرْبَعَ سِنِينَ ثُمَّ تَعْتَدُّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ثُمَّ تَحِلُّ، قَالَ مَالِكٌ وَإِنْ تَزَوَّجَتْ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا فَدَخَلَ بِهَا زَوْجُهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فَلاَ سَبِيلَ لِزَوْجِهَا الأَوَّلِ إِلَيْهَا، قَالَ مَالِكٌ وَذَلِكَ الأَمْرُ عِنْدَنَا وَإِنْ أَدْرَكَهَا زَوْجُهَا قَبْلَ أَنْ تَتَزَوَّجَ فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا، قَالَ مَالِكٌ وَأَدْرَكْتُ النَّاسَ يُنْكِرُونَ الَّذِي قَالَ بَعْضُ النَّاسِ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ يُخَيَّرُ زَوْجُهَا الأَوَّلُ إِذَا جَاءَ فِي صَدَاقِهَا أَوْ فِي امْرَأَتِهِ.
قَالَ مَالِكٌ وَبَلَغَنِي أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ فِي الْمَرْأَةِ يُطَلِّقُهَا زَوْجُهَا وَهُوَ غَائِبٌ عَنْهَا ثُمَّ يُرَاجِعُهَا فَلاَ يَبْلُغُهَا رَجْعَتُهُ وَقَدْ بَلَغَهَا طَلاَقُهُ إِيَّاهَا فَتَزَوَّجَتْ أَنَّهُ إِنْ دَخَلَ بِهَا زَوْجُهَا الآخَرُ أَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فَلاَ سَبِيلَ لِزَوْجِهَا الأَوَّلِ الَّذِي كَانَ طَلَّقَهَا إِلَيْهَا، قَالَ مَالِكٌ وَهَذَا أَحَبُّ مَا سَمِعْتُ إِلَىَّ فِي هَذَا وَفِي الْمَفْقُودِ.
 
قال أبو الوليد سليمان بن خلف القرطبي الباجي الأندلسي (المتوفى 474 هـ) في المنتقى شرح الموطأ، مَا جَاءَ فِي عِدَّة الَّتِي تَفْقِدُ زَوْجَهَا:
(ش) قَوْلُهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (أَيُّمَا امْرَأَةٍ فَقَدَتْ زَوْجَهَا فَلَمْ تَدْرِ أَيْنَ هُوَ، فَإِنَّهَا تَنْتَظِرُ أَرْبَعَ سِنِينَ) لَمْ يَعْتَبِرْ بِمَا أَقَامَتْ قَبْلَ أَنْ تَرْفَعَ إلَيْهِ، وَلَوْ أَقَامَتْ عِشْرِينَ سَنَةً، وَالْمَفْقُودُ الَّذِي ذَهَبَتْ فِيهِ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ هُوَ الَّذِي يَغِيبُ عَنْ امْرَأَتِهِ بِحَيْثُ لَا يُعْلَمُ مِنْ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يُفْقَدْ فِي مَعْرَكَةٍ فَيَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ هَلَاكُهُ فِيهَا فَهَذَا إذَا رَفَعَتْ امْرَأَتُهُ أَمْرَهَا إلَى السُّلْطَانِ قَالَ عِيسَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ: الْمَفْقُودُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ مَفْقُودٌ لَا يُدْرَى مَوْضِعُهُ فَهَذَا يَكْشِفُ الْإِمَامُ عَنْ أَمْرِهِ ثُمَّ يَضْرِبُ لَهُ الْأَجَلَ أَرْبَعَ سِنِينَ، وَمَفْقُودٌ فِي صَفِّ الْمُسْلِمِينَ فِي قِتَالِ الْعَدُوِّ فَهَذَا لَا تُنْكَحُ زَوْجَتُهُ أَبَدًا وَتُوقَفُ هِيَ وَمَالُهُ حَتَّى يَنْقَضِيَ تَعْمِيرُهُ وَمَفْقُودٌ فِي قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ بَيْنَهُمْ لَا يُضْرَبُ لَهُ أَجَلٌ وَيَتَلَوَّمُ لِزَوْجَتِهِ بِقَدْرِ اجْتِهَادِهِ فَالْمَفْقُودُ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ أَوَّلًا هُوَ الَّذِي يَسْأَلُ أَهْلُهُ عَنْ وَجْهِ مَغِيبِهِ وَجِهَةِ سَفَرِهِ، وَعَنْ وَقْتِ انْقِطَاعِ خَبَرِهِ ثُمَّ يَسْأَلُ وَيَبْحَثُ عَنْ خَبَرِهِ.
وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ وَيَكْتُبُ إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فِي الْكَشْفِ عَنْ أَمْرِهِ، فَإِنْ لَمْ يُوقَفْ لَهُ عَلَى خَبَرٍ اسْتَأْنَفَ لَهَا ضَرْبَ أَجَلٍ أَرْبَعَ سِنِينَ، فَإِنْ جَاءَ فِي الْمُدَّةِ، أَوْ جَاءَ خَبَرُ حَيَاتِهِ فَهِيَ عَلَى الزَّوْجِيَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَأْتِ وَلَمْ يُسْمَعْ لَهُ خَبَرٌ حَتَّى انْقَضَتْ الْمُدَّةُ اعْتَدَّتْ عِدَّةَ الْوَفَاةِ، فَإِنْ جَاءَ فِي الْعِدَّةِ فَهِيَ عَلَى الزَّوْجِيَّةِ، وَإِنْ انْقَطَعَ وَانْقَضَتْ الْعِدَّةُ قَبْلَ مَجِيئِهِ، أَوْ مَجِيءِ عِلْمٍ بِحَيَاتِهِ فَقَدْ حَلَّتْ لِلْأَزْوَاجِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّ الْإِمَامَ يَضْرِبُ لَهَا أَجَلًا بَعْدَ الْبَحْثِ عَنْ أَمْرِ الَّذِي بِهِ يُعْلَمُ انْقِطَاعُ خَبَرِهِ لِمَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ أَنَّ ذَلِكَ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ لِأَنَّهُ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ قَالَ وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ عَلِيٍّ وَجَمَاعَةٍ مِنْ التَّابِعِينَ وَلَمْ يُعْلَمْ لَهُمْ فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ فَثَبَتَ أَنَّهُ إجْمَاعٌ وَمِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى أَنَّ الْمَرْأَةَ لَهَا حَقٌّ فِي الزَّوْجِ، وَلَوْ كَانَ حَاضِرًا لِفَرْقٍ بَيْنَهُمَا بِالْعُنَّةِ، وَمَغِيبُ عَيْنِهِ أَشَدُّ مِنْ الْعُنَّةِ فَأَنْ تَثْبُتَ لَهَا الْفُرْقَة بِهِ أَوْلَى، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو مُحَمَّدٍ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَاَلَّذِي رَوَى عَنْ عَلِيٍّ ذَلِكَ رَوَاهُ عَنْهُ خِلَاسٌ وَفِي رِوَايَتِهِ عَنْهُ ضَعْفٌ وَرَوَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ هِيَ امْرَأَةٌ اُبْتُلِيَتْ فَلْتَصْبِرْ حَتَّى يَأْتِيَهَا مَوْتٌ أَوْ فِرَاقٌ وَهِيَ أَسَانِيدُ غَيْرُ مُتَّصِلَةٍ وَمَا اتَّصَلَ مِنْهَا فَلَيْسَ بِقَوِيٍّ وَهِيَ مَعَ ذَلِكَ تَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ، وَرُوِيَ مِثْلُ قَوْلِ عُمَرَ وَعُثْمَانَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَابْنُ رَاهْوَيْهِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ هِيَ زَوْجَةُ الْأَوَّلِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ) انتهى كلام الباجي رحمه الله
 
(1) مذهب الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه.