إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد: 

الحمد لله المنَزَّهِ بذاته عن إشارة الأوهام، المقدَسِ بصفاته عن إدراك العقول والأفهام، المتصفِ بالألوهية قبل كل موجود، الباقي بالنعوت الأبدية بعد كل محمود، القديمِ الذي تعالى عن مماثلة الحدثان، العظيم الذي تنَزَّه عن مماسة المكان، المتعالي عن مضاهاة الأجسام ومشابهة الأنام، القادر الذي لا يُشار إليه بالتكييف، القاهر الذي لا يسئل عن ما يفعل، العليم الذي نزّل القرءان شفاء للأرواح والأبدان، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي مدّت عليه الفصاحة رواقها وشَدّت به البلاغة نِطاقها المبعوثُ بالآيات الباهرات والحجج النيّرات، الـمـُنَزَلُ عليه القرءان رحمة للناس وعلى ءاله وصحابته الطاهرين.
 
أما بعد عباد الله، فإني أوصيكم ونفسي بتقوى الله العليّ القدير القائل في محكم كتابه (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَىءٍ قَدْرًا) (سورة الطلاق ءايات 2 و 3).
 
إخوة الإيمان روى أحمد في مسنده والحاكم في المستدرك عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ جَعَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتْلُو عَلَيَّ هَذِهِ الآيَةَ (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا) حَتَّى فَرَغَ مِنْ الآيَةِ ثُمَّ قَالَ (يَا أَبَا ذَرٍّ لَوْ أَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ أَخَذُوا بِهَا لَكَفَتْهُم) قَالَ: فَجَعَلَ يَتْلُو بَهَا وَيُرَدِّدُهَا.
 
والتقوى معناها أداء الواجبات كلها واجتناب المحرمات كلها وقد جاء عن ابن عباس رضى الله عنهما أنه قال ومن يتق الله يُنجِه في الدنيا والآخرة (1)، (وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) أي من حيث لا يدري، فالتقوى سبب للفرج من الكربات في الدنيا والآخرة، وسبب للرزق ولنيل الدرجات العلى، أما المعاصى فهي سبب للحرمان في الدنيا وفي الآخرة، فقد روى الحاكم وابن حبان وغيرهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال (إن الرجل لَيُحْرَمُ الرّزْقَ بالذنبِ يصيبُهُ)، قال بعضهم: فيحرم من نعم في الدنيا من نحو صحة ومال أو تمحق البركة من ماله أو يستولي عليه أعداؤه، وقد يذنب الذنب فتسقط مَنْزلته من القلوب أو ينسى العلم، حتى قال بعضهم: إني لأعرف عقوبة ذنبي في سوء خلق حماري، وقال آخر: أعرفه من تغير الزمان وجفاء الإخوان.
 
فلا تترك أخي واجبًا مهما كان ولا تأتِ معصيةً مهما كانت صغيرة أو كبيرة ولا تخشَ في ذلك تغير الزمان بل توكَّلْ على الله فإن الأمر كما قال تعالى (وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) أي فهو كافيه، والتوكُل أيها الأحبة معناه الاعتمادُ بالقلب على الله وحده لأنَّه سبحانه خالقُ كلّ شَىء منَ المنَافعِ والمضَارّ وسائِر ما يَدخُل في الوجُودِ فلاَ ضَارَّ ولا نافعَ على الحقيقةِ إلا الله فإذا اعتقدَ العبدُ ذلكَ ووَطَّنَ قلبَه علَيه وأدام ذُكْرَه كانَ اعتمادهُ على الله في أمُورِ الرِّزْقِ والسّلامةِ منَ المضَارّ واجتنب اللجوء إلى المعصية لا سيما عند الضيق روى الإمام أحمد وغيره (2) عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه أنه قال سَمِعْتُ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ (لَوْ أَنَّكُمْ تَوَكَلْتُمْ عَلَى اللهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ تَغْدُو خِمَاصًا [أى تخرج في أول النهار وليس في بطونها أكل] وَتَرُوحُ بِطَانًا) [أي وترجع إلى أعشاشها وقد امتلأت بطونها].
 
والتوكل أيها الأحبة لا ينافى الأخذ بالأسباب ففي صحيح ابن حبان أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم أُرْسِلُ ناقتي وأتوكل أى هل أترك ناقتي من غير أن أربطها وأتوكل على الله فقال له رسول الله (اعقلها [أى اربطها] وتوكل)، وروى البيهقيُّ في شعب الإيمان عن سيد الطائفة الصوفية الجنيد البغدادي رضى الله عنه أنه قال [ليس التوكلُ الكسبَ ولا تركُ الكسبِ، التوكلُ شىء في القلوب].
 
فجملةُ التوكّل تفويضُ الأمر إلى الله تعالى والثِّقةُ به مع ما قُدّرَ للعبد من التّسَبُّب أي مباشرة الأسباب ونقل البيهقي (3) عن بعضهم أنه قال اكتسب ظاهرًا وتوكّلْ باطنًا، فالعبد مع تكسبه لا يكون معتمدًا على تكسبه وإنما يكون اعتماده في كفاية أمره على الله عزّ وجلّ.
 
(وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَىءٍ قَدْرًا * إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ) أى يقضي ما يريد (4) (قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) أي أجلاً ومنتهىً ينتهي إليه، قدَّر الله ذلك كلَّه فلا يقدَّم ولا يؤخر (5) فالميت قتلا والميت بسبب صدمة سيارة والميت على فراشه كلٌّ منهم ميت بأجله وكلٌّ منهم ميت بقضاء الله وقدره لا أحد يموت قبل الوقت الذي قدر له الله أن يموت فيه قال تعالى (فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ) (سورة الأعراف ءاية 34) وقال تعالى (مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا) (سورة الحديد ءاية 22)، وقال عزّ من قائل (أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ) (سورة النساء ءاية 78) وفي مسند الإمام أحمد أن رَسُولُ اللهِ صَلَّى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (إِنَّ النُّطْفَةَ تَكُونُ فِي الرَّحِمِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا عَلَى حَالِهَا لا تَغَيَّرُ فَإِذَا مَضَتْ الأرْبَعُونَ صَارَتْ عَلَقَةً ثُمَّ مُضْغَةً كَذَلِكَ ثُمَّ عِظَامًا كَذَلِكَ فَإِذَا أَرَادَ اللهُ أَنْ يُسَوِّيَ خَلْقَهُ بَعَثَ إِلَيْهَا مَلَكًا فَيَقُولُ الْمَلَكُ الَّذي يَلِيهِ أَيْ رَبِّ أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى، أَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ، أَقَصِيرٌ أَمْ طَوِيلٌ، أَنَاقِصٌ أَمْ زَائِدٌ قُوتُهُ وَأَجَلُهُ، أَصَحِيحٌ أَمْ سَقِيمٌ قَالَ فَيَكْتُبُ ذَلكَ كُلَّهُ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ: فَفِيمَ الْعَمَلُ إِذَنْ وَقَدْ فُرِغَ مِنْ هَذَا كُلِّهِ، قَالَ: اعْمَلُوا فَكُلٌّ سَيُوَجَّهُ لِمَا خُلِقَ لَهُ) فالمآل والعاقبة محجوبان عنا وأعمالنا علامات على ما يصير إليه حال الشخص منا لكن الخاتمة محجوبة عنا فابذل أخى جهدك وجاهد نفسك فِي عَمَل الطَّاعَة مع التوكل على الله سبحانه ولا تَتْرُك بذل الجهد معتمدًا على عفو الله ومغفرته فإن وجدت من نفسك خيرًا فاحمد الله واثبت عليه وازدد منه وإن وجدتَ غير ذلك فاتقِ الله وأصلحْ من حالك قبل فوات الأوان وقبل أن تندم عندما لا ينفع الندم.
 
اللهمّ حسن أحوالنا واختم بالصالحات أعمالنا واجعلنا من الفائزين الغانمين في الآخرة يارب العالمين.
 
هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.
 
(1) تفسير الطبري
(2) رواه ابن ماجه والحاكم كذلك
(3) شعب الإيمان
(4) زاد المسير
(5) زاد المسير