إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد: 

إنَّ الحمدَ للهِ نحمدهُ ونستعينهُ ونَستهديه ونشكرهُ ونعوذُ باللهِ منْ شرورِ أنفُسِنا ومنْ سيئاتِ أعمالِنا، مَنْ يَهْدِ اللهُ فهُو المُهتد ومَنْ يُضْلِلْ فلَن تجِدَ له وليِّاً مُرْشِداً، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شَريك له ولا مَثيلَ له ولا ضَدَّ ولا نِدّ له، وأشهدُ أن سيدَنا وحبيبنَا وعظيمَنا وقائدَنا وقُرةَ أعيُننا محمّداً عبدهُ ورسولُه وصفيُّه وحبيبهُ صلَّى الله على سيِّدِنا محمّدٍ وعلى كُلِّ رسولٍ أرسلَه, اما بعدُ عبادَ الله، فإني أوصيكُم ونفسي بِتَقوى الله ِالقائلِ في مُحك كتابِه (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) سورة الحجر ءاية 99.
 
رَوى مُسْلمٌ عن مَعْقِلِ بنِ يَسار رضي الله عنه أن رسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم قال (العِبادَةُ في الهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إليَّ).
 
اعلَمُوا معشرَ المؤمنين أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ قد خَلَقَنا وأَوْجَدَنا في هذه الدُّنيا الفَانية الزائلةِ لِحِكْمَةٍ عظيمةٍ بالِغَة، خَلَقَنا سبحانَه لِنَعْبُدَهُ وحدَه ولا نُشْرِكَ بهِ شيئا، لِنُطِيْعَه فيما أمرَ بِه ونَنتهيَ عمّا نَهَى عنه لأنه سبحانه وتعالى يَسْتَحِقُّ أنْ يُطاعَ فهو الآمِرُ فلا ءامِرَ له وهو النَّاهي فلا ناهيَ له قالَ الله (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ) سورة الذاريات ءاية 56 – 57.
 
وقد أوجَبَ تقدَّسَتْ أسماؤهُ علينا أن نُؤديَ الفرائضَ ونجتنِبَ المحرماتِ فوجَبَ علينا أن نتقربَ إليه بما افترَضَ وأَمَر ونَنْتهَي عمّا نَهى عنه وحَذَّر فإنَّ أفضلَ ما يتقربُ به العبدُ إلى ربِه أداءُ الواجِباتِ واجتنابُ المحرمات فقد روى البخاريُّ عن أبي هريرةَ رضيَ الله عنه عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلَّم فيما يَرْويهِ عن ربه تباركَ وتعالى أنه قال (وما تَقَرَّبَ إليَّ عَبْدِي بِشَئٍ أحبَّ إليَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عليه) فدلَّ الحديثُ على عظيمِ فَضلِ المحافظةِ على الفرائضِ ولا شكَّ أن أَعلى الفرائضِ وأفضلَها الإيمانُ باللهِ ورسولِه صلى الله عليه وسلَّم قال عليه الصلاةُ والسلام (أفّضلُ الأعمالِ إيمانٌ باللهِ ورسُوله) رواه البخاريّ.
 
وَلِيُعْلَمَ أنَّ الثباتَ على أداءِ الواجباتِ واجتنابِ المحرَّمات هو السبيلُ إلى النَّجاةِ يومَ القيامةِ ودخولِ الجنةِ بلا عذاب فَطُوبِى لمن كانتِ التقوى سيرتَه وأصلَحَ علانِيَتَهُ وسريرتَه فاستقامَ في أيامٍ قليلة لِيفوزَ في أيامٍ طِوالٍ يُومَ لا ينفَعُ مالٌ ولا بَنُون إلا مَنْ أتى اللهَ بِقَلْبٍ سَليم فقد روى الترمذيُّ عن معاذِ بنِ جَبل رضي الله عنه أنه قال قُلْتُ يارسولَ الله أًخبرني بِعَمَلٍ يُدْخِلُني الجنة و يُباعِدُني منَ النار قال (لقدْ سَأَلْتَ عَنْ عَظِيم وإنه لَيَسِيْرٌ على مَن يَسَّره اللهُ تعالى عَلَيه تَعْبُدُ اللهَ لا تُشْرِكُ به شَيئا وتقيمُ الصلاةَ وتُؤتي الزكاة وتصومُ رمضان وتحجُّ البيتَ إنِ استطَعْتَ إليه سَبيِلاً) فهذا الصحابيُ الجليلُ معاذُ بنُ جبل رضى الله عُنْه وهو بينَ الصحابةِ معروفٌ مشهورٌ بالفَضْلِ والقَدْرِ العَالي دَفَعَه حِرْصُه على الخيرِ إلى أن يسألَ رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم هذا السؤَالَ العَظيم فأرشَدَه رسولُ الله صلى الله عليه وسلَّم إِلى خَيْرٍ كبيرٍ أمرهُ بالثباتِ على عبادةِ اللهِ وعدمِ الأشراكِ به شيئاً ويناسبُ هنا أنْ نتكلمَ عن تَفْسِيرِ العِبادةِ فإنَّ كثيراَ منَ الناسِ لا يعرِفُون مَعنى العبادةِ أَصْلا، والعبادةُ كمَا عرّفَها أهلُ العِلْم هي أَقْصَى غايةِ الخُشُوعِ والخُضوع نقلَ ذلك الزَّبيديُّ في شرحِ القاموس عنِ السبكي رحمه الله فمَن صرفَ العبادةَ لِغَيْرِ اللهِ تعالى لا يكونُ منَ المسلمين قال اللهُ عزَّ وجلَّ (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) سورة الانبياء اية 92.
 
فالأُمُةُ الإسلاميةُ واحدَة عقيدتُها واحدة فكلُّ مسلمٍ في أنحاءٍ الأرضِ مِنْ أقصاهَا إلى أقصاها يعتقدُ أن اللهَ واحدٌ لا شَرِيكَ له ولا شَبيه ولا مَثيلَ له موجودٌ بلا مكان لا يُشبه شَيْئا ولا يُشْبِهُه شَئ مهما تصورتِ ببالك فاللهُ بخلافِ ذلك ويعتقدُ أنه لا يَستحقُّ أحدٌ أن يُعْبَدَ إلا اللهُ تعالى وحدَه فلا يجوزُ تعظيمُ أحدٍ كتعظيمِ الله ولا يجوزُ أن يَتذللَ أحدٌ نهاية التذللِ لغيرِ الله ومَنْ فعلَ ذلك فقد كَفَرَ والعياذُ بالله وهذا حَقُّ لا يختلفُ فيه مُسلمان ولذلك فإننا ندعو إِلى الثباتِ على طاعةِ الله تعالى نَدْعُو الى الالتزامِّ التامِّ بالشَّرعِ غلى التكاتُفِ والتعاضُدِ والتعاوُنِ على طاعةِ الله تعالى والاعتصامِ بِحَبْلِ اللهِ المتين لا سِيَّما في هذا الزمنِ العصِيب الذي عَظُمَ فيه الخَطْبُ واسْتَشْرَى فيه الشرّوزادَ الفسادُ فَصَرْنا نرىَ القابِضَ فيه على دِينْهِ كالقابضِ على جَمر وكلُّكم يِسْمَع ويَرى واقعَ البلادِ والعباد وإذا كانَ الأمرُ هكذا فإننا نَنْصَحُ بالعَمَلِ بحدِيْثِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم (العِبادَةُ في الهَرْجِ كَهِجْرةٍ إليَّ) فهنيئاً لمن عَمِلَ بما حثَّ عليه النبيُّ الأكرمُ صلَّى اللهُ عليه وسلم وقَدْ حَثَّنا عليه الصلاةُ والسلامُ في هذا الحديثِ على الاشتغالِ بالعبادةِ في أيامِ الهرج والهرجُ معناه شِدَّةُ القَتْلِ وها نحنُ نعيشُ زمنَ الهَرْج نعيشُ زمنِ الفِتنَ التي مازالت تتوالَى كَقِطَعِ الليلِ المُظْلم فليَشْغَلِ الواحِدُ منا نفسَه في هذه الأيامِ بعبادةِ رَبِّهِ لينالَ تلكَ الفضيلةَ العظيمةَ فقد شبَّه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أجرَ المتعبِّدِ في الهَرْجِ بأجْرِ مَنْ هاجرَ إليه حين كانتِ الهجرةُ فَرْضاً حيثُ أنَّ الهجرةَ كانت في وقتٍ منِ الأوقاتِ فَرْضاَ على المُستطيع منَ المسلمين فكانَ واجباً على مَنِ استطاعَ الهجرةَ أن يُهاجِرَ الىرسولِ الله صلى الله عليه وسلَّم في المدينة المنوَّرةِ ثم نُسِخَ هذا الحكمُ بعدَما فتحَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم مكةَ المكرمة أي لم تَعُدِ الهجرةُ بعد ذلك فَرْضاً فمنِ اشتغلَ بالعبادة في الهَرْج كانَ له أجرُ يُشْبِهُ أجرَ المهاجرِ في سيبلِ الله إلى رسولِ الله صلى الله عليه وسلَّم وليس المعنى أن له كَأَجرِ المهاجرِ تماماً إنما يُشْبِهُهُ يُشبهُ أجرَ مَنْ هاجرَ في الصحراء وتحمَّل وعْثَاءَ السَّفر وأعباءَ الرَّحيِل ومشقاتِ الطّريق طاعةً لله ورسوِله فأيُّ خَيْرِ وأيُّ أجر وأي فَضْلٍ هذا الفضلُ العظيم الذي ينالُه ويحوزُه مَنْ تشاغَلَ بالعبادةِ في تلك الحال وتركَ ما تشاغَلَ كثيرٌ منَ الناسِ بهِ وهو الهرج المذموم الذي نُهِيْنَا عنه فقد قال اللهُ تعالى لحبيبه النبيِّ المصطفى صلى الله عليه وسلّم (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) سورة الحجر ءاية 99.
 
أي دُمْ على عبادةِ ربِّكَ اللطيفِ الكريمِ الرحيمِ حتى يأتيَكَ اليَقين واليقينُ هنا الموتُ لأن العِلْمَ بِوُقًوعِ الموتِ يَقين لا يَمْتَرِي فيه عاقلٌ والمعنى اِشْتَغِلْ بالعبادةِ ما دُمْتَ حَيَّا، طالما أنت في مُدةِ الجنيا فاشغَلْ نفْسَكَ بالعبادة وإنْ نزلَ بكَ خَطْب أوِ اشتدَتْ بكَ النوائِب فأرِحْ نفسِك بالصلاة فإنها أفضَلُ العباداتِ بعدَ الأيمانِ باللهِ ورسولِه فقد روى أحمدُ في مُسندِه عن حُذَيفةِ رضي الله عنه أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلّم كان إذا حَزَبَهُ أمرٌ صَلَّى ومعنى حَزَبَهُ أي نَابَه واشتَدَّ عليه فَمَنْ عرفَ حقيقةَ الدُّنيا كانً جَدِيرا به أن يَعْمَلَ بطاعةِ الله تعالى ويَقْطَعَ العُمُرَ في تَقْوى رَبِهِ والإكثارِ منَ الخيرِ وإذا رأى الناسَ تدْخُلُ في الفِتَن لم يَدْخُلْ معهم بل يثبتُ على البِرِّ والعبادةِ فلقَد قيل الدنيا ساعة فاجعَلْها طاعة ورُوي عن الإمامِ البُخاريِّ رضي الله عنه أنه قال:
 
إِغْتَنِمْ في الفَرَاغ فَضْلَ رُكوعٍ *** فَعَسى أنْ يَكُونَ مَوْتُكَ بَغْته
كم مِنْ صِحيحٍ ماتَ مِنْ غيرِ عِلَّةٍ *** ذهبت نفسُه الصحيحةُ فَلْتَه
 
هذا وأستغفر الله لي ولكم.