إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد:
الحمد لله الذي أكمل لنا الدّين وأتمَّ علينا النعمة وجعل أمتنا ولله الحمد خيرَ أمة وبعث فينا رسولاً منا يتلو علينا ءاياته ويزكّينا ويعلّمنا الكتاب والحكمة، أحمده على نعمه الجمة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تكون لمن اعتصم بـها خيرَ عصمة، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله أرسله للعالمين رحمة وفرض عليه بيان ما أنزل إلينا فأوضح لنا كل الأمور المهمة فأدّى الأمانة ونصح الأمة صلى الله وسلم عليه وعلى ءاله وأصحابه أولي الفضل والهمة.
أمَّا بعدُ عبادَ اللهِ، فإني أوصي نفسي وإياكم بتقوى الله العظيم والتزام نهج النبي الكريم والصبر على البلاء والثبات على الهدى والتوكل على الله والثقة بالله:
ألا بالصبر تبلغ ما تريد *** وبالتقوى يلين لك الحديد
روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من نفَّسَ عن مؤمِنٍ كُرْبَةً من كُرَبِ الدنيا نَفَّسَ اللهُ عنهُ كربةً من كُرَبِ يومِ القيامة، ومن يسَّرَ على مُعسرٍ يسَّرَ اللهُ عليهِ في الدنيا والآخرة ومن سترَ مُسلِمًا سترهُ اللهُ في الدنيا والآخرة واللهُ في عوْنِ العبدِ ما كانَ العبدُ في عوْنِ أخيهِ ومن سلَكَ طريقًا يلتمسُ فيهِ علمًا سهَّلَ اللهُ له به طريقًا إلى الجنة وما اجتمعَ قومٌ في بيتٍ من بيوتِ اللهِ يتلونَ كتابَ اللهِ ويتدارسونَهُ بينهم إلاَّ نزلتْ عليهمُ السكينةُ وغشيتهم الرحمةُ وحفَّتهم الملائكة وذكرهمُ اللهُ فيمن عندهُ ومن بطَّأ بهِ عملُهُ لم يُسْرِعْ بهِ نسبُهُ).
فقولُهُ صلى الله عليه وسلم (من نفَّسَ عن مؤمِنٍ كُرْبَةً من كُرَبِ الدنيا نَفَّسَ اللهُ عنهُ كربةً من كُرَبِ يومِ القيامة) هذا يرجعُ إلى أنَّ الجزاءَ من جنسِ العمل، وقد تكاثرتِ النُّصوص بهذا المعنى كحديث (إنَّما يرحم اللهُ من عبادِهِ الرُّحماء) رواه البخاري، وحديث (إنَّ اللهَ يُعذّبُ الذينَ يُعذّبونَ الناسَ في الدنيا) رواه مسلم، والكربةُ هي الشدة العظيمة التي توقعُ صاحبها في الكرْبِ، وتنفيسها أنْ يخفّفَ عنهُ منها والتفريجُ أعظمُ من ذلكَ وهو أنْ تزالَ عنهُ الكربةَ فيزولُ همُّهُ وغمُّهُ، فجزاءُ التنفيسِ التنفيسُ وجزاءُ التفريجِ التفريجُ.
وأخرجَ البيهقيُّ من حديثِ أنسٍ مرفوعًا أنَّ رجلاً من أهلِ الجنةِ يُشرِفُ يوم القيامةِ على أهلِ النار، فيُناديهِ رجلٌ من النار يا فلانُ هل تعرفني؟
فيقولُ لا واللهِ ما أعرفكَ من أنتَ؟
فيقولُ أنا الذي مررتَ به في دارِ الدنيا فاستسقيتني شُربةً من ماء فسقيتُكَ قالَ عرفتُ، فقالَ فاشفعْ لي بها عندَ ربّكَ، قال فيسألُ اللهَ تعالى فيقولُ شفّعني فيهِ فيُشَفَّعُ فيه فَيأمر به فيُخرجُ من النار.
قوله (فيخرج من النار) أي لأنه مسلم.
وقولهُ عليه السلام (كُربةً من كُرَبِ يوم القيامة)، ذلكَ لأنَّ كرب الدنيا بالنسبةِ إلى كُرب الآخرةِ كلا شىءٍ، ففي البخاريّ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (يعرقُ الناسُ يومَ القيامة حتى يذهبَ عرقُهُم في الأرضِ سبعينَ ذراعًا، ويُلجِمُهم حتى يبلغَ ءاذانَهُم)، وفي مسلمٍ عن المقدادِ بن الأسود قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (تُدْنى الشمسُ يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميلِ فيكون الناس على قدرِ أعمالهم في العرَقِ فمنهم من يكون إلى كعبيه ومنهم من يكون إلى ركبتيهِ ومنهم من يكون إلى حَقْوَيهِ ومنهم من يلجمهُ العرقُ إلجامًا) قال وأشار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فِـيهِ.
وقولُهُ صلى الله عليه وسلم (ومن يسَّرَ على مُعسرٍ يسَّرَ اللهُ عليهِ في الدنيا والآخرة) هذا أيضًا يدلُّ على أنَّ الإعسارَ يحصلُ في الآخرة وقد وصفَ اللهُ يوم القيامةِ بأنَّهُ يومٌ عسيرٌ على الكُفَّار غير يسيرٍ فدَلَّ أنَّ يُسراهُ على غيرهم وقالَ تعالى (وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الكَافِرِينَ عَسِيرًا) سورة الفرقان ءاية 26.
التيسيرُ على الـمـُعْسِرِ في الدنيا من جهةِ المالِ يكونُ بأحدِ أمرينِ، إمَّا بإنظارِهِ إلى الميسرة وذلكَ واجبٌ لقولِهِ تعالى (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلَىَ مَيْسَرَةٍ) سورة البقرة ءاية 280، وتارةً بالوضعِ عنهُ إنْ كانَ الـمـُيَسِّر غريـمـًا وإلاَّ بإعطائِهِ ما يزولُ بهِ إعسارهُ وكلاهما لهُ فضلٌ عظيمٌ، ففي الصحيحينِ عن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم (كانَ تاجرٌ يُداينُ الناسَ فإذا رأى مُعسِرًا قالَ لفتيانِهِ تجاوزوا عنهُ لعلَّ اللهَ يتجاوز عنَّا فتجاوزَ اللهُ عنهُ) وفيهما عن حُذيفةَ وأبي مسعودٍ رضي الله عنهما عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنه قال (ماتَ رجلٌ فقيلَ لهُ بِمَ غفرَ اللهُ لكَ؟ فقالَ كنتُ أُبايعُ الناسَ فأتجّوزُ عن الموسِر وأخفّفُ عن المُعْسِرِ)، وفي الـمُسنَدِ عن ابن عمر رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم (من أرادَ أن تستجاب دعوته وأن تكشف كربته فليفرج عن معسر).
ومما يشهد لقوله صلى الله عليه وسلم (ومن سترَ مُسلِمًا سترهُ اللهُ في الدنيا والآخرة) ما روي عن بعض السلف أنه قال أدركتُ قومًا لم يكن لهم عيوبٌ فذكروا عيوب الناس فذكر الناس لهم عيوبًا وأدركتُ قومًا كانت لهم عيوب فكفّوا عن عيوب الناس فنسينَا عيوبـهم، أو كما قال.
وأخرجَ ابن ماجه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال (من ستر عورة أخيه المسلم ستر الله عورته يوم القيامة ومن كشف عورة أخيهِ المسلم كشف الله عورته حتى يفضحه بها في بيتهِ).
واعلموا إخوة الإيمان أنَّ الناس على ضربين أحدهما مستور فوقعت منه زلة فلا يجوز هتكه ولا كشفها لأن هذا غيبة محرمة، قال تعالى (إنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَأحِشَةُ فيِ الَّذينَ ءَامَنُواْ لَهُم عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنيَا وَالآخِرَةِ) سورة النور ءاية 19، والثاني المعلنُ للفجور والفسوقِ المجاهرُ بـها فهذا لا غيبةُ له كما قال الحسَنُ، ولكن لا يُتخذ ذكره بالسوء وِردًا أو تشفيًا، وإنما يُذكر لزجرهِ وليقامَ عليهِ الحدُّ وليرتدع بهِ أمثالُهُ، ومن فعل ما يوجب الحد ثم تاب قبل أن يُطَّلعَ عليه فالأوْلى له أن يستر على نفسهِ ولا يأتِي إلى الإمام ليخبره بما فَرَّطَ فيه وقد تاب منه، وأما قوله صلى الله عليه وسلم (واللهُ في عوْنِ العبدِ ما كانَ العبدُ في عوْنِ أخيهِ)، فقد أخرج الطبراني من حديث عمر مرفوعًا (أفضل الأعمالِ إدخالُ السرورِ على المؤمن، كَسَوتَ عورتَهُ أو أشبعتَ جَوْعَتَه أو قضيتَ حاجَتَه).
وكانَ عمر يتعاهد الأرامل يستقي لهنَّ الماء بالليل وقد حصل أن رءاهُ طلحةُ بالليلِ يدخل بيت امرأة فدخلَ إليها طلحةُ نهارًا فإذا هي عجوزٌ عمياء مقعدة، فسألها ماذا يصنعُ هذا الرجل عندكِ؟ فقالتُ هذا مِن كذا وكذا يتعاهدني يأتيني بـما يُصلِحُني ويُخرجُ عني الأذى فقال طلحة ثَكِلَتْكَ أمُّك يا طلحة أعوراتِ عمرَ تتبع، وكان كثير من الصالحين يشترط على أصحابه أن يخدمهم، فقد صحب رجل قومًا في الجهادِ فاشترط عليهم أن يخدمهم، وكان إذا أرادَ واحدٌ منهم أن يغسل رأسهُ أو ثوبهُ قام هو ففعل لهم ذلك ثمَّ لما ماتَ جرَّدوهُ للغسلِ فرأوا على يدهِ مكتوبًا (من أهل الجنة) فنظروا فإذا هي كتابةٌ بين الجلد واللحمِ.
وقوله صلى الله عليه وسلم (ومن سلَكَ طريقًا يلتمسُ فيهِ علمًا سهَّلَ اللهُ له به طريقًا إلى الجنة) وسلوكُ الطريقِ لالتماسِ العلمِ يدخل فيه سلوكُ الطريق الحقيقي بالمشي بالأقدامِ ونحوها ويدخل فيه سلوك الطريق المعنوي مثلُ حفظِهِ ودرسِهِ ومُذاكرتِهِ وكتابتِهِ ونحوِ ذلك، فقد يكونُ المرادُ أنَّ اللهَ يسهل له العلمَ الذي طلبهُ وسلك طريقه وييسره له، وعلم الدين طريق يوصل إلى الجنة، وقد يراد به أيضًا أنَّ اللهَ ييسر لطالب العلم المخلص سبل الهداية لسلوك طريق الجنة فيكون طلبه للعلم سببًا لهدايتهِ ولدخول الجنة، فمن سلك طريق العلم ولم يَعوجَّ عنه وصل إلى الجنة من أقرب الطرق وأسهلها، فلا طريق إلى معرفةِ اللهِ وإلى الوصولِ إلى رضوانِهِ إلاَّ بالعلم النافع الذي بعثَ اللهُ بهِ رسلهُ وأنزل به كتبه.
وقوله صلى الله عليه وسلم (وما اجتمعَ قومٌ في بيتٍ من بيوتِ اللهِ يتلونَ كتابَ اللهِ ويتدارسونَهُ بينهم إلاَّ نزلتْ عليهمُ السكينةُ وغشيتهم الرحمةُ وحفَّتهم الملائكة وذكرهمُ اللهُ فيمن عندهُ ) يدل على استحبابِ الجلوسِ في المساجدِ لتلاوةِ القرءانِ ومدارستهِ، وإن حُمِلَ على تعلُّمَ القرءانِ وتعليمِهِ فلا خلافَ في استحبابِهِ.
وفي البخاريّ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (خيركم من تعلَّمَ القرءانَ وعلَّمّهُ).
وعن أبي سعيدٍ الخُدريّ رضي الله عنهُ أنه صلى الله عليه وسلم قال (ما مِن قومٍ صلّوا صلاة الغداةِ ثم قعدوا في مُصلاَّهم يتعاطونَ كتابَ اللهِ ويتدارسونهُ إلاَّ وكَّلَ اللهُ بهم ملائكةً يستغفرونَ لهم حتى يخوضوا في حديثٍ غيرهِ).
وفي صحيحِ مسلمٍ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم خرَجَ على حلقةِ من أصحابِهِ فقالَ ما أجلسكم؟ قالوا جلسنا نذكر اللهَ ونحمَدُهُ على ماهدانا للإسلامِ ومنَّ بهِ علينا قالَ آللهِ ما أجلَسَكُم إلاَّ ذاكَ قالوا واللهِ ما أجلسنا إلاَّ ذاك قال أما إني لم أستحلفكم تُهمةً لكم ولكنه أتاني جبريلُ فأخبرني أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ يباهي بكم الملائكة.
اللهم سهل لنا سبل الهداية لسلوك طريق الجنة.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.