إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد:
أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه الكرام رضي الله عنهم، ومعجزة تكثير الشراب ببركته صلى الله عليه وسلم
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ (كَانَ أَهْلُ الصُّفَّةِ أَضْيَافَ أَهْلِ الإِسْلاَمِ لاَ يَأْوُونَ عَلَى أَهْلٍ وَلاَ مَالٍ، وَاللَّهِ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ إِنْ كُنْتُ لأَعْتَمِدُ بِكَبِدِي عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْجُوعِ وَأَشُدُّ الْحَجَرَ عَلَى بَطْنِي مِنَ الْجُوعِ وَلَقَدْ قَعَدْتُ يَوْمًا عَلَى طَرِيقِهِمُ الَّذِي يَخْرُجُونَ فِيهِ فَمَرَّ بِي أَبُو بَكْرٍ فَسَأَلْتُهُ عَنْ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَا سَأَلْتُهُ إِلاَّ لِيَسْتَتْبِعَنِي، فَمَرَّ وَلَمْ يَفْعَلْ، ثُمَّ مَرَّ بِي عُمَرُ فَسَأَلْتُهُ عَنْ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَا أَسْأَلُهُ إِلاَّ لِيَسْتَتْبِعَنِي، فَمَرَّ وَلَمْ يَفْعَلْ، ثُمَّ مَرَّ بِي أَبُو الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم، فَتَبَسَّمَ حِينَ رَآنِي وَقَالَ (أَبَا هُرَيْرَةَ)، قُلْتُ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ (الْحَقْ)، وَمَضَى فَاتَّبَعْتُهُ وَدَخَلَ مَنْزِلَهُ فَاسْتَأْذَنْتُ فَأَذِنَ لِي فَوَجَدَ قَدَحًا مِنْ لَبَنٍ فَقَالَ (مِنْ أَيْنَ هَذَا اللَّبَنُ لَكُمْ؟)، قِيلَ أَهْدَاهُ لَنَا فُلاَنٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم (أَبَا هُرَيْرَةَ)، قُلْتُ لَبَّيْكَ، فَقَالَ (الْحَقْ إِلَى أَهْلِ الصُّفَّةِ فَادْعُهُمْ)، وَهُمْ أَضْيَافُ أَهْلِ الإِسْلاَمِ لاَ يَأْوُونَ عَلَى أَهْلٍ وَلاَ مَالٍ، إِذَا أَتَتْهُ صَدَقَةٌ بَعَثَ بِهَا إِلَيْهِمْ وَلَمْ يَتَنَاوَلْ مِنْهَا شَيْئًا، وَإِذَا أَتَتْهُ هَدِيَّةٌ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ فَأَصَابَ مِنْهَا وَأَشْرَكَهُمْ فِيهَا فَسَاءَنِي ذَلِكَ وَقُلْتُ مَا هَذَا الْقَدَحُ بَيْنَ أَهْلِ الصُّفَّةِ وَأَنَا رَسُولُهُ إِلَيْهِمْ فَسَيَأْمُرُنِي أَنْ أُدِيرَهُ عَلَيْهِمْ فَمَا عَسَى أَنْ يُصِيبَنِي مِنْهُ وَقَدْ كُنْتُ أَرْجُو أَنْ أُصِيبَ مِنْهُ مَا يُغْنِينِي، وَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ فَأَتَيْتُهُمْ فَدَعَوْتُهُمْ، فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ فَأَخَذُوا مَجَالِسَهُمْ فَقَالَ (أَبَا هُرَيْرَةَ خُذِ الْقَدَحَ وَأَعْطِهِمْ)، فَأَخَذْتُ الْقَدَحَ فَجَعَلْتُ أُنَاوِلُهُ الرَّجُلَ فَيَشْرَبُ حَتَّى يُرْوَى ثُمَّ يَرُدُّهُ فَأُنَاوِلُهُ الآخَرَ حَتَّى انْتَهَيْتُ بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ رَوِيَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْقَدَحَ فَوَضَعَهُ عَلَى يَدَيْهِ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَتَبَسَّمَ فَقَالَ (أَبَا هُرَيْرَةَ اشْرَبْ)، فَشَرِبْتُ ثُمَّ قَالَ (اشْرَبْ)، فَلَمْ أَزَلْ أَشْرَبُ وَيَقُولُ (اشْرَبْ)، حَتَّى قُلْتُ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أَجِدُ لَهُ مَسْلَكًا فَأَخَذَ الْقَدَحَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَسَمَّى ثُمَّ شَرِبَ) رواه الترمذي وقال هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وقول أبي هريرة (لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع) أي ألصق بطني بالأرض، وكأنه كان يستفيد بذلك ما يستفيده من شد الحجر على بطنه، أو هو كناية عن سقوطه إلى الأرض مغشياً عليه كما وقع في رواية (فلقيت عمر بن الخطاب فاستقرأته آية) فذكره، قال (فمشيت غير بعيد فخررت على وجهي من الجهد والجوع، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأسي) الحديث.
وفي حديث محمد بن سيرين عن أبي هريرة في كتاب الاعتصام من صحيح البخاري (لقد رأيتني وإني لأخرّ (أي يقع) ما بين المنبر والحجرة من الجوع مغشيا عليّ، فيجيء الجائي فيضع رجله على عنقي يرى أن بي الجنون وما بي إلا الجوع).
قوله (ثم مر بي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم فتبسم حين رآني وعرف ما في نفسي) استدل أبو هريرة بتبسمه صلى الله عليه وسلم على أنه عرف ما به، لأن التبسم تارة يكون لما يعجب وتارة يكون لإيناس من تبسم إليه، ولم تكن تلك الحال معجبة فقوي الحمل على الثاني.
قوله (وما في وجهي) كأنه عرف من حال وجهه ما في نفسه من احتياجه إلى ما يسد رمقه.
وفي الحديث من الفوائد استحباب الشرب من قعود، وأن خادم القوم إذا دار عليهم بما يشربون يتناول الإناء من كل واحد فيدفعه هو إلى الذي يليه وهذا ما فعله أبو هريرة رضي الله عنه، وفيه معجزة عظيمة للنبي صلى الله عليه وسلم ولها نظائر من تكثير الطعام والشراب ببركته صلى الله عليه وسلم، وفيه كرم النبي صلى الله عليه وسلم وإيثاره على نفسه وأهله وخادمه، وفيه ما كان بعض الصحابة عليه فى زمن النبى صلى الله عليه وسلم من ضيق الحال، وفضل أبى هريرة وتعففه عن التصريح بالسؤال واكتفاؤه بالإشارة إلى ذلك، وتقديمه طاعة النبي صلى الله عليه وسلم على حظ نفسه مع شدة احتياجه، وفضل أهل الصفة، وفيه أن المدعو إذا وصل إلى دار الداعي لا يدخل بغير استئذان، وفيه جلوس كل أحد فى المكان اللائق به، وفيه إشعار بملازمة أبى بكر وعمر للنبى صلى الله عليه وسلم، وفيه قبول النبى صلى الله عليه وسلم الهدية وتناوله منها وإيثاره ببعضها الفقراء، وامتناعه من تناول الصدقة ووضعه لها فيمن يستحقها، وشرب الساقي آخرا وشرب صاحب المنزل بعده، والحمد على النعم، والتسمية عند الشرب.
فصلوات الله على صاحب الأخلاق الرفيعة معلم الناس الخير جزاه الله عن أمته كل خير صلى الله عليه وسلم، ورزقنا أن نكون من كتبها وينشرها تحت لوائه يوم القيامة آمين.