إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد: 

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى ءاله وصحبه، أما بعد
 
إن من أفضــلِ أيام السنةِ الهجريةِ المباركةِ يومَ عاشوراء، وهو العاشر من مُحَرّم، الذي وقعت فيه حوادث فاصلة.
 
ففــي هذا اليوم تابَ الله على ءادم، وقيل هو اليوم الذي أُهْبِطَ فيه ءادم الى الأرض، ونجى الله سفينةَ نوحٍ، ونجى الله مُوسى، وأغرق فِرْعَوْنَ، ونجّـى يُونُسَ من بطنِ الحوت، وقيــل هو اليوم الذي تيبَ فيه على قومِ يُونسَ، وأعطى المُلك لسُليمــان، ونجى أيوب من ضُرِّه، وفيه حصلت غزوة ذاتِ الرِّقَاع في السنة الرابعةِ للهجرة، وفيهِ استُشهِد الإمام الحُسَيْن فكان ذلك فاجعة ألمّت بالمسلمين وذلك في كَرْبَلاء يوم الجمعة في العاشر من مُحَرّم لسنة إحدى وستين للهجرة.
 
1- في هذا اليوم تاب الله على ءادم:
يقول الله تعالى ﴿ وَعَصَى ءادمُ ربَّهُ ﴾ وقال الله تعالى ﴿ فَتَلقَّى ءادمُ من ربّهِ كلماتٍ فتابَ عَلَيْهِ إنّهُ هُوَ التّوّابُ الرّحِيم ﴾ سورة البقرة ءاية ۳۷، وأخبر عنه وعن زوجه انّهُما قالا ﴿ رَبَّنا ظَلَمْنَا أنْفُسَنا وإنْ لَمْ تَغْفِر لنَا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ منَ الخَاسِريْن ﴾ سورة الأعراف ءاية ٢۳، وأخبر عن نوح أنه قال ﴿ وإلا تَغْفِرْ لي وتَرْحَمْني أكُنْ منَ الخَاسِرين ﴾ سورة هود ءاية ٤۷، وأخبر عن موســى أنه قال ﴿ ربِّ إني ظلمتُ نَفْسٍي فاغْفِرْ لـِـــي ﴾ سورة القصص ءاية ۱٦، وأخبـر عــن ذي النـُّـــون وهو يُونس أنه قــــــال ﴿ لا الهَ إلا أنتَ سُبْحانَكَ إنـّـي كُنْتُ مِنَ الظّالمِيـــن ﴾ سورة الأنبياء ءاية ۸۷.
 
وفي الحديث الذي رواه أبو داود دعاء ذي النون في بطن الحــوت ﴿ لا اله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ﴾ لم يدع به رجل مسلم في شيء قط إلا استجيب له.
 
فالشرع الحنيف يحث على تجديد التوبة النصوح في يوم عاشوراء وترجية لقبول التوبة ممن تاب فيه الى الله من ذنوبه.
 
وفي دعاء الاستفتاح الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يستفتح به (الله أنت ربي لا اله إلا أنت ظلمتُ نفسي واعترفتُ بذنبي فاغفر لي إنه لا يغفرُ الذنوبَ إلا أنت) أخرجه مسلم والترمذي وأبو داود.
 
وفي الدعاء الذي علّمه النبي صلى الله عليه وسلم للصّدّيق أن يقوله في صلاته (اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم) أخرجه البخاري ومسلم والنسائي.
 
وفي حديث شداد بن أوس عن النبي (سيّدُ الاستغفار أن يقول العبد اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء بنعمتك وأبوءُ بذنبي فاغفر لي إنه لا يغفرُ الذنوبَ إلا أنت) رواه البخاري والترمذي والنسائي وأحمد.
 
كان ءادم عليه السلام قد نَهاه الله عن أن يأكل من شجرة فأكل منها فعصى ءادم ربه ولكنها ليست كفراً وليست بِمرتبة الزنا وليست بِمرتبة شرب الخمر ثم تاب الى الله تبارك وتعالى، قال الله عز وجل ﴿فتلقى ءادم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم﴾ سورة البقرة/37.
 
لَما أكل ءادم عليه السلام من الشجرة أهبطه الله الى الأرض وكذلك حواء، أما إبليس اللعين الذي أمره الله أن يسجد لآدم سجود تحية وتعظيم رفض وأبى واستكبر، اعترض على أمر الله قال (أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين)، فطرد الله ابليس من الجنة قال ﴿ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذمومًا مدحورًا﴾ سورة الاسراء/18، وقال تعالى ﴿لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين﴾ سورة ص/85، فأهبط الله ءادم وحواء الى الأرض ولَم يطردا من رحمة الله ولا من الجنة أما ابليس اللعين هو المطرود من رحمة الله تبارك وتعالى.
 
وورد في الحديث أن ءادم عليه السلام لما أكل من الشجرة رفع رأسه الى قوائم العرش، لما أكل ءادم من الشجرة قال (يا رب أسألك بحق محمدٍ إلا ما غفرت لي)،
 
قال (وكيف عرفت محمدًا ولم أخلقه)،
قال (رفعت رأسي الى قوائم العرش فوجدت مكتوبًا لا إله إلا الله محمد رسول الله فعرفت أنك لم تضف الى اسمك إلا أحب الخلق إليك) بهذا الحديث يستدل على التوسل ومشروعيته.
 
2- في هذا اليوم نجى الله سفينة نوح من الغرق:
نوح عليه السلام أول رسول أرسل إلى قوم كفار، وظل يدعوهم إلى الإسلام، تسعمائة وخمسين سنة، وهم يكذبونه ويسبونه ويضربونه أحيانا حتى يُغشى عليه، ثم الله تعالى أوحى إليه قال له لا يؤمنُ أحد من قومك إلا الذين ءامنـــوا قبل هذا، وكان ءامن معه قبل ذلك نحو ثمانين شخصا ما بين رجال ونساء، وعند ذلك نوح دعا أن يهلكهم الله ولا يتـرك أحدا منهم، الله تعالى أرسلَ ماءً من السماء على خلافِ العادة، وأمر الأرض بأن تخرج ماءها، أخرجت الأرض ماءها أربعين يوما، ظل الماء ينبع أربعين يوما قبل أن ينـزل ماء السماء، لو نزل ماء السماء أولا لخرّب الجبال وشقق الأرض تشقيقا من قوته، لكن هذا الماء الذي نبع من الأرض تحمّل ماء السماء ثم أنزل الله ماءً من السماء ليس كالمطر الذي ينـزل اليوم، لا، كل قطرة كالجبل.
 
وارتفع الماء حتى غطى كل جبال الدنيا وعلا فوق أعلى جبل في الأرض مسيرة خمسة عشر ذراعا، أغرق الله الكفار كلهم الكبار والصغار حتى الأطفال الرضع ما بقي على وجه الأرض إنسان كافر لأنّ الله يعلمُ أن صغارهم لو عاشوا لكفروا، وأما نوح والذين ءامنوا معه كانوا في السفينة، الله علّمَهُ أن يعمل سفينة من شجرة نبتت يوم ولد نوح، هذه الشجرة صارت ضخمة كبيرة، من هذه الشجرة بنى السفينة، كان طولها نحو ثلاثمائة ذراع وعرضها نحو ثمانين، ثم ظل نوح ومن ءامن معه في السفينة ستة اشهر وأياما، وفي هذه المدة أخذتهم السفينة الى عرفات ثم إلى مزدلفة ثم إلى منى إلى حيث الجمرات ثم إلى الكعبة أي موضعها وطافت به سبعا ثم بين الصفا والمروة سبعا، أي إلى الأماكن التي الحاج يدور إليها.
 
ثــم الله تعــالى أمر الأرض بأن تبلـع ماءها والسماء أقلعت ماءها ﴿ وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ سورة هود ءاية ٤٤، ثم الأرض اختزنت الماء الذي أنبَعَته والماء الذي نزل من السماء وبعدما نشفت الأرض استقرت السفينة على جبل في العراق اسمه الجودي، ثم نزل نوح والذين ءامنوا إلى الأرض آمنين سالمين، وكان قد ادخل معه نوح الى السفينة من كل نوع من البهائم اثنين ذكر وأنثى. ونجى الله نوحًا والذين ءامنوا معه في السفينة وكان ذلك يوم عاشوراء.
 
3- في هذا اليوم نجى الله موسى وأغرق فرعون:
بعث الله سيدنا موسى عليه السلام في زمن الملك الظالم الطاغية فرعون وكان اسمه الوليد بن مصعب وكان يدعي الألوهية والعياذ بالله فمرة قال (ما علمت لكم من إله غيره) ومرة قال (أنا ربكم الأعلى) فجاء سيدنا موسى عليه السلام يدعو إلى توحيد الله وتنـزيهه عن الشريك والشبيه وأمره الله أن يذهب إلى فرعون ليدعوه إلى الإسلام قال تعالى لموسى ﴿اذهب إلى فرعون إنه طغى﴾ أي تجاوز الحد في الكفر ﴿فقل هل لك إلى أن تزكى﴾ أي أدعوك فتتحلى بالفضائل وتطهر من الرذائل ومن الكبر والكفر ﴿وأهديك إلى ربك فتخشى﴾ أي أدلك على معرفته بالبرهان فتخافه ﴿فأراه الآية الكبرى﴾ من الآيات السبع وهي اليد أو العصا، ولكن الطاغية فرعون تكبر وعاند قال تعالى ﴿فكذب وعصى ثم أدبر يسعى﴾ أي في الأرض فسادًا ﴿فحشر﴾ أي جمع السحرة وجنوده ﴿فنادى﴾ قام فيهم خطيبًا ﴿فقال أنا ربكم الأعلى﴾ لأنه يدعي أن لا رب فوقه قادر عليه وكان سيدنا موسى قد لقي من فرعون وأتباعه ما لقي من الأذى فخرج موسى ومن اتبعه من بني اسرائيل من مصر وكان معه ستمائة ألف ولحقه فرعون وخرج معه ألف ألف وستمائة ألف من المقاتلين يريد أن يبيد موسى ومن معه، قال تعالى ﴿فلما تراءا الجمعان قال أصحاب موسَى إنَّا لَمُدرَكون قال كلاَّ إنَّ مَعِي ربّي سيهدين﴾ ﴿فأوحينآ إلى مُوسى أنِ اضرب بعصَاك البَحرَ فانفلق فَكَانَ كُلُّ فِرق كالطَّودِ العظيم﴾ الشعراء.
 
انفلق البحر اثني عشر فرقًا كل فرق كالجبل العظيم وبين كل فِرقين طريق يَبَسٌ. فدخل موسى ومن معه البحر وقدم فرعون وجنوده وقال لنلحقنهم ولندركنهم، وقد شاء الله أن يكون جبريل راكبًا على فرسٍ أنثى وفرعون راكبًا على جواد ذكرٍ فجعلت فرس فرعون تريد اللحوق بفرس جبريل، فساق الله فرعون وجنوده إلى حيث أراد وذلك جزاءً لهم على مكرهم وتكبرهم فمكر فرعون ومكره خبث وخداع، قال تعالى ﴿ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين﴾ أي أن الله أقوى في إيصال الضرر إليهم من حيث لا يشعرون.
 
قال ربنا عز وجل (وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ البَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الغَرَقُ قَالَ آَمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آَمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ المُسْلِمِينَ آَلْآَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ المُفْسِدِينَ) يونس 90/91.
 
مع هذه المعجزة العظيمة قال بعض أتباع فرعون إنه اختفى ولم يمت فأظهر الله تعالى جسد فرعون المتكبر منتفخًا قال تعالى (فَاليَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آَيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آَيَاتِنَا لَغَافِلُونَ) يونس:92.
 
4- في هذا اليوم نجى الله يونس من بطن الحوت:
 
وأما يونس عليه السلام أرسله الله إلى أهل نينوى كانوا في أرض الموصل بالعراق ليدعوهم إلى الإسلام وكان عددهم أكثر من مائة ألف، بقي ثلاثا وثلاثين سنة، يدعوهم إلى الإسلام ولم يؤمن به غير رجلين، فتركهم وخرج قبل أن يأمره الله، وقال تعالى ﴿ وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لا إِلَهَ إِلا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ﴾ ومعنى ﴿ مُغَاضِبًا ﴾ لقومه لا لربه، فظن أننا لن نضيق عليه لتركه لقومه.
 
سَيِّدُنَا يُونُسُ عليه السلامُ لَمَّا خَرَجَ غاضبًا على قومِهِ لَمْ يعلمْ بِمَا حَلَّ بِهِم فوَصَلَ إلى شاطىءِ البحرِ ورَكِبَ السفينةَ بعدَ أنْ أصعدَهُ أهلُهَا إليهَا مَحَبَّةً وتَبَرُكًا بهِ إذ كانَ جَمِيلَ الشكلِ، مَلِيحَ المنظرِ، فَصِيحَ الكلامِ ورَقِيقَ الألفاظِ، فلَمَّا صَعِدَ رَقَدَ في جانبِ السفينةِ ثُمَّ نامَ، وسارَتْ بِهِم السفينةُ تَتَخَطَّى الأمواجَ حتَّى فاجأتْهُمْ رِيحٌ كادتْ تُغْرِقُ السَّفِينَةَ، فاجتَمَعَ رُكابُها ليَدُعُوا اللهَ تعالى عَلَّهُم ينجُونَ، وأيقظُوا نَبِيَّ اللهِ يونُس ليَدعُوَ معَهُم، فاستيقظَ ودَعَا اللهَ عز وجلَّ فرفعَ اللهُ عنهُم تلكَ الرَّيحَ.
 
ثُمَّ انطلَقَ إلى مكانِهِ فنَامَ، فجَاءَتْ رِيحٌ كادَت أن تُقَطِّعَ السفينةَ، فأَيقَظَ الناسُ يونُسَ عليهِ السلامُ ودَعَوْا اللهَ فارتَفَعَتِ الريحُ، وبينمَا هُم كذلكَ ظَهَرَ لَهُم حوتٌ عظيمٌ قد أَطلَّ برأسِهِ إليهم أرادَ أن يبتلعَ السفينةَ، فقال يونسُ (يا قومُ، هذا مِنْ أَجلِي، فلَو طرحتُمُونِي في البحرِ لسِرْتُم ولذَهَبَتِ الريحُ عنكم والخَوفُ)، ولَم يكنْ مقصودُهُ أن يقتلُوهُ لأنَّهُ يَعلَمُ أنَّ اللهَ يُؤَيِدُهُ بالمعجزاتِ الباهراتِ.
قالوا (لا نَطرَحُكَ حتَّى نَقومَ بالقُرعَةِ، فمَنْ وَقَعَتْ عليهِ رَمَينَاهُ في البحرِ)، فاقتَرَعُوا فوَقَعَ على يونُسَ، فقال لَهُم (يا قومُ، اطرحونِي فمِنْ أَجلِي أَتَتْكُم الريحُ)، فقالوا (لا نَفعَلُ حتَّى نَقتَرِعَ مرةً أخرى)، ففَعَلُوا فَوَقَعَ على يونُسَ فقَالَ لَهُم ما قالَهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ، حتَّى انطلَقُوا بهِ إلى رأسِ السفينةِ ليُلقُوهُ في البحرِ، فإذا الحوتُ فاتِحٌ فمَهُ، ثُمَّ جاءُوا بهِ إلى جانبِ السفينةِ، فإذَا بالحوتِ هناكَ، ثُم رَجَعوا إلى الجانبِ الآخرِ، فإذا بالحوتِ كذلك هناك فاتحٌ فمَه، فلما رأَى ذلك يُونُسُ ألقى بنفسِه وهو يعلمُ أنَّ اللهَ سيُنجِيهِ وأنَّهُ لَنْ يَمُوتَ بِهذهِ الرَّمْيةِ لأنَّهُ نَبِيٌّ كريـمٌ، فابتَلَعَهُ الحوتُ الذي كان مأمورًا أنْ لا يأكُلَ منهُ لَحمًا ولا يَكْسِرَ لَهُ عَظمًا.
 
ومَكَثَ يونُسُ فِي بَطنِ الحُوتِ أَيَّامًا، يَشُقُّ بِهِ الأمواجَ، ويَهْوِي إلى الأَعماقِ، فِي ظلماتٍ عدَّةٍ: ظُلْمةِ بطنِ الحوتِ وظُلمةِ الليلِ وظُلمةِ الأَعمَاقِ، وكَشَفَ اللهُ عن سَمعِ يَونُسَ فسَمِعَ أَصوَاتًا غَريبةً تَأتِيهِ مِنَ الخَارِجِ، فأَوحَى اللهُ إليهِ أنَّ هذا تسبيحُ أسـماكِ البَحرِ وحيتَانِهِ، فالتَجَأَ إلى اللهِ تعالى مغيثِ المَلهُوفِينَ، ومُعينِ المكروبينَ، وَاسِعِ الرحـمَةِ، وقابلِ التَّوبَةِ، فاستَجَابَ اللهُ دُعَاءَهُ، وأَمَرَ الحُوتَ أَنْ يُخرِجَ يونُسَ إلى شاطىءِ البحرِ، فألقاهُ وقَدْ سَقِمَ ومَرِضَ لِطُولِ مُكثِهِ فِي بطنِ الحوتِ وكان ذلك يوم العاشر من محرم.
 
ورُوِيَ أنَّ الحوتَ قَذَفَ بهِ على ساحِلِ قريةٍ مِنَ الموصلِ بالعَرَاءِ حيثُ لا شَجَرٌ ولا جَبَلٌ، وكانَ مَرِيضَ البَدَنِ كهيئةِ الفَرْخِ الذي ليسَ عليهِ رِيشٌ أقلُ شىءٍ يَسقُطُ عليهِ يُؤلِمُهُ، فَرَحِمَهُ اللهُ وأَنبَتَ عَليهِ يَقْطِينَةً أظلَّتْهُ وكَانَ لَهَا فوائدُ عديدةٌ منها سُرعةُ نَبَاتِهَا وتَظلِيلُ وَرَقِهَا لِكِبَرِهِ ونُعُومَتِهِ، ولا يَقرَبُ منهَا الذُبَابُ، وثَمَرَتُهَا جَيدةُ التغذيةِ وتؤكلُ نِيئَةً ومطبوخةً بلُبِّهَا وقِشْرِهَا، وسَخَّرَ الله لَهُ أَرْوِيَّةً وهي أُنثَى الوَعْلِ الذي هو مِنْ فَصِيلةِ الغزلانِ فكَانَتْ تُفْرِجُ لَهُ ما بَينَ رجلَيْها فيَشرَبُ من لَبَنِها كُلَّ بُكرَةٍ وعَشِيَّةٍ حتَّى تَعَافَى بإذنِ اللهِ.
 
ثُمَّ أَمَرَهُ اللهُ أَنْ يأتِيَ قَومَهُ ويُخبِرَهُم أنَّ اللهَ تعالى قد تَابَ عليهِم، فذَهَبَ إليهِم وفِي الطريقِ لَقِيَ رَاعِيًا فسَألَهُ عن قومِ يونُسَ وعَن حَالِهِم، وكَيفَ هُم؟ فأخبَرَهُ أنَّهُم بِخيرٍ، وأنَّهُم على رجاءِ أَنْ يَرجِعَ إليهِم رَسولُهُم، فأتَاهُم فرَحَّبُوا بهِ مُعتذرِينَ إِليهِ، فَكَبُرَ فرحُهُ لتركِهِم عِبادةَ الأصنامِ والأوثانِ، وإيـمانِهم بالله الرحمنِ الموجودِ بلا مكان.
 
5- وهو اليوم الذي تيب فيه على قوم يونس:
 
كانت (نِينَوَى) إِحدى قُرَى أَرضِ المُوصِلِ فِي العراقِ، وقَدْ أَفسَدَ أهلُها إِفسَادًا كَبيرًا، وعَددُهم مائةُ ألفِ شخصٍ وأكثرُ وكانَ لَهم صنمٌ اسـمُه عَشْتَارُ يعبُدُونهُ من دونِ اللهِ تعالى، فجاءَهُم سيدُنا “يُونُسُ” عليه السلام نبيًّا يدعوهُم إلى توحيدِ اللهِ عزَّ وجلَّ وتركِ عبادةِ الأصنامِ.
 
استَغرَبَ المُشركُونَ دَعوةَ سيدِنا يُونُسَ لَهم، ولَم يأخذُوا بكلامِهِ مع أنَّهُ أتى بآياتٍ بيناتٍ ومعجزاتٍ باهراتٍ تدلُّ على صدقِ دعوتِهِ وصحةِ عقيدتِهِ.
 
وقِيلَ إنَّهُ بَلَغَ بهِ الأمرُ أنْ قالَ لَهُم (لقدْ دَعَوتُكُم باللينِ والحسنَى مُدةَ ثَلاثةٍ وثلاثينَ عامًا، فإذَا أَجَبتُم دَعوتِي كانَ الخيرُ الذي أرجُوهُ، وإلا فإنِّي أُنذِرُكُم عذابًا واقِعًا، وبَلاءً نَازِلاً وهَلاكًا قريبًا بَعدَ أَربعينَ ليلةً) فقالُوا مستَكبِرِينَ (إنْ رأينَا علاماتِ العذابِ ءامنَّا بِكَ).
 
وبَقِيَ يونسُ يدعُوهُم، فلَمَّا مَضَتْ خَمسٌ وثلاثونَ ليلةً دارَ حديثٌ بينَ المشركينَ حَولَ ما أَنذَرَهُم فقالُوا (إنَّ يُونسَ رَجلٌ لا يَكذِبُ، فارْقُبُوه فإنْ أَقَامَ معَكُم فلا عليكُم وإنْ رَحَلَ عنكُم فهو نُزولُ العذابِ بلا شَكٍّ) فلَمَّا كَانَ الليلُ تَزوَّدَ يونُسُ وخَرَجَ عنهم غَاضِبًا عليهِم ءَايِسًا منهُم ولَمْ يَكُنْ قد استَأذَنَ ربَّهُ في الخروجِ فظَنَّ أَنَّهُ لنْ يُؤَاخِذَهُ بذلكَ.
 
ولَمْ يَكَدْ يُونسُ يَبعُدُ قليلاً عن نِينَوَى حتَّى أَطَلَّتْ على أهلِهَا عَلاماتُ العذابِ وإِشارَاتُ الهلاكِ، فظَهَرَتْ فِي السَّمَاءِ غيومٌ سوداءُ، وثَارَ الدُّخانُ الكثيفُ وهَبَطَ حتَّى وَقَعَ فِي مدينتِهِم وسَوَّدَ سطوحَهُم وصارَ العذابُ على بُعد ميلٍ واحدٍ منهُم.
 
ولَمَّا أيقنُوا بوقوعِ الهلاكِ والعذابِ، قَصَدُوا يونسَ عليهِ السلامُ فلم يَجِدُوهُ، فخرجُوا إلى الصحراءِ، وفرَّقوا بينَ النساءِ والصِّبيان، وبينَ الدوابِ وأولادِهَا، فحَنَّ بعضُها إلى بعضٍ وعَلَتِ الأصواتُ، وكَثُرَتْ التضرُّعاتُ وأَلْهمهم اللهُ تعالى التوبةَ فأَخلَصُوا النيةَ، ذلك أنَّهُم سألُوا شيخًا من أتباعِ سيدِنا يونُسَ وقالُوا لَهُ (قَدْ اقتَرَبَ العذابُ فمَاذَا نفعلُ)؟ فقال لَهم (ءامنُوا باللهِ ورسولِهِ وتوبُوا)، وقولُوا (اللهُمَّ إنَّ ذنوبَنا قد عَظُمَتْ وجَلَّتْ، وأنت أعظمُ منهَا وأجلُّ، افعلْ بنَا ما أنتَ أهلُهُ ولا تفعلْ بنَا ما نَحنُ أهلُهُ).
 
عندَ ذلكَ ءامنُوا باللهِ ورسولِهِ يونُسَ عليه السلامُ وكانت ساعةً عظيمةً هائِلَةً، وتابُوا إلى اللهِ تعالى تَوبَةً صَادِقَةً، وبَلَغَ مِنْ توبتِهِم أن رَدُّوا المظالِمَ إلى أهلِهَا حتَّى إن الرجلَ كانَ يقلَعُ الحجرَ بعد أَنْ وَضَعَ عليهِ بناءَ أساسِ دَارِهِ فيَردُّهُ إلى صاحبِهِ الذي أخذَهُ منهُ ظُلمًا، وَرُدَّ عنهُم العذابُ، ورجَعُوا إلى بيوتِهِم ءامنِينَ مؤمنينَ، وكانَ ذلكَ اليومُ على ما قيلَ يَومَ عاشوراءَ يومَ الجمُعةِ.
 
6- في هذا اليوم أعطى الله الملك لسليمان عليه السلام، بعث الله تعالى سيدنا سليمان عليه السلام بالإسلام كسائر الأنبياء ورزقه النبوة والملك فكان ملكه واسعا وسلطانه عظيما:
 
وقد أنعم الله عليه بنعم كثيرة كريمة منها تسخير الجن والشياطين بحيث يطيعونه وينفذون اوامره ومنها اسالة النحاس المذاب له وفهمه منطق الطير، وجعل الريح تأخذه الى حيث شاء باذن الله على بساط عجيب.
 
ومما روي في ترحال سيدنا سليمان عليه السلام كذلك أنه ركب البساط مرة وسار فمر فوق فلاح يحرث أرضه ،فنظر نحوه الفلاح وقال (لقد أوتي ءال داود ملكا عظيما)، (وسيدنا سليمان هو ابن النبي داود عليه السلام).
 
فحملت الريح كلامه فألقته في أذن سيدنا سليمان عليه السلام ، فنـزل حتى وصل إلى الفلاح فقال له (إني سمعت قولك، وإنما مشيت إليك لئلا تتمنى ما لا تقـدر عـليه، لتسبيحة واحدة يقبلها الله منك خير مـن الـد نيا ومــــا فيها)، فقال الفلاح (أذهب الله همك كما أذهبت همي).
 
وذلك لأن نبي الله سليمان عليه السلام لم يكن متعلق القلب بالرفاهية والتنعم، بل كان زاهدا في الدنيا يأكل خبز الشعير على الرغم من سعة ملكه وعظم ما بين يديه من الأموال.
 
وكان كل يوم يذبح مائة ألف رأس غنم وثلاثين ألف رأس بقر ويطعمها للناس وهو يأكل خبز الشعير ويأتدم باللبن الحامض ويطعم الناس نقي القمح، وإنما كان يستغل ما أكرمه الله به لنشر الإسلام وإظهار هيبة هذا الدين العظيم.
 
7- في هذا اليوم نجا أيوب من الضرّ:
 
وفي هذا اليوم نجا أيوب من الضُّر. هذا أيّوبُ عليه السّلام الذي ابتلاهُ الله بلاءً شديدًا استمرَّ ثمانيةَ عشرَ عامًا وفَقَدَ مالَهُ وأهلَهُ ثُمَّ عافاهُ الله وأغناهُ ورزقَهُ الكثيرَ من الأولادِ، بعضُ الناس الجهّالِ يفترونَ عليه ويقولونَ إن الدّودَ أكلَ جسمَهُ فكانَ الدّودُ يتساقَطُ ثُمَّ يأخذُ الدّودةَ ويعيدُها إلى مكانها من جسمِهِ ويقول (يا مخلوقةَ ربّي كُلي من رزقِكِ الذي رَزَقَكِ)، نعوذُ بالله هذا ضلالٌ مبينٌ.
 
كان سيدُنا أيوبُ عليهِ السلامُ قبلَ أن ينـزِلَ عليهِ البلاءُ وبعد أن أزيلَ عنه، من الأنبياءِ الأغنياءِ، يسكنُ في قريةٍ له اسمها (البَثَنيّةُ) وَهي إحدى قُرى حَوْرانَ في أرضِ الشامِ بين مدينة دمشقَ وأذْرِعَاتِ في الأُرْدُنّ. وقد ءاتاهُ اللهُ تعالى الأملاكَ الواسعةَ والأراضِيَ الخِصبةَ والصحةَ والمالَ وكثرةَ الأولادِ، وكانَ عليهِ السلامُ شاكرًا لأنعُمِ الله، مُواسيًا لعبادِ الله، بَرًّا رحيمًا بالمساكينِ، يكفَلُ الأيتامَ والأراملَ، ويُكْرِمُ الضيفَ ويَصِلُ المنقطعَ.
 
ثم إنه أصابه بلاءٌ شديدٌ وعَناءٌ عظِيمٌ، وليسَ ذلكَ لأنه هيّنٌ على الله، إنما ابتلاءٌ من ربّهِ لهُ لِيَعْظُمَ ثوابُهُ وأجرُهُ، فقد قال رسولُ الله صلى الله عليهِ وسلم (أشدُّ الناسِ بلاءً الأنبياءُ ثم الأمثلُ فالأمثلُ) وهكذا صارَ الناسُ إذا ذَكَرُوا بلاءَ سيدنا أيوبَ وصبرَهُ على مَرّ السنينَ مَعَ كونِِهِ أفضلَ أهلِ زمانِهِ، عوَّدُوا أنفسَهُم على الصبرِ على الشدائدِ كما فعلَ سيدُنا أيوبُ، إذ إنه ابتُلِيَ كما قيلَ بأنْ جاءَتِ الشياطينُ إلى أموالِهِ فَأَحْرَقَتْها، وفَتَكَتْ بأغنامِهِ وإِبِلِهِ وعبيدهِ، وخرَّبتْ أراضيَهُ، فلما رأى سيدنا أيوبُ ما حلَّ به لم يعترضْ على الله تعالى بلْ قال (لله ما أعطى ولله ما أخذَ فهو مالكُ الملكِ، ولهُ الحمدُ على كلِ حالٍ).
 
وعادتِ الشياطينُ إلى أفاعيلِها وفسادِها فسُلّطَتْ على أولادِ سيدِنا (أيوبَ) الذين كانوا في قصرِ أبيهم ينعمونَ برزقِ الله تعالى، فتزلزلَ القَصْرُ بهم، حتى تصدَّعَتْ جدرانُهُ ووقعتْ حيطانُهُ. وقُتلوا جميعًا ولم يبقَ منهم أحدٌ وبلغَ سيدَنا (أيوبَ) الخبرُ فبكى، لكنهُ لم يقابلِ المصيبةَ إلا بالصبرِ.
 
امتلأ إبليسُ وأعوانُه غيظًا مما صدرَ من سيدنا (أيوبَ) عليه السلامُ من صبرٍ وتسليمٍ لقضاءِ الله وقدَرِهِ، وأُصيب سيدنا (أيوبَ) بأمراضٍ شديدةٍ عديدةٍ، لكنه لم يخرجْ منه الدودُ كما يذكرُ بعضُ الناسِ الجُهَّالِ، وإنما اشتدَّ عليه المرضُ والبلاءُ حتى جَفاهُ القريبُ والبعيدُ ولم يبقَ معه إلا القلةُ القليلةُ، لكنَّ زوجتَه بقيتْ تخدِمُهُ وتُحسنُ إليه ذاكرةً فضلَهُ وإحسانَهُ لها أيامَ الرخاءِ.
 
ثم طالتْ مدةُ هذِه العِلةِ ولم يبقَ لهُ شئٌ من الأموالِ البتةَ، وكان يزورُهُ اثنانِ من المؤمنينَ فارتدَّ أحدُهما وكفرَ، فسأل سيدُنا أيوبُ عنه فقيلَ لهُ وسوسَ إليه الشيطانُ أنَّ الله لا يبتلي الأنبياءَ والصالحينَ، وأنكَ لستَ نبيًّا، فحزنَ سيدُنا أيوبُ لهذا الأمرِ وتألمَ لارتدادِ صاحبِهِ عن الإسلامِ، فدعا اللهَ أن يعافيَهُ ويُذِْهِبَ عنه البلاءَ كي لا يرتدَّ أحدٌ من المؤمنينَ بسببِ طولِ بلائِهِ.
 
رفَعَ اللهُ تعالى عن نبيّه أيوبَ عليه السلام البلاءَ بعد مرورِ ثمانيةَ عَشَرَ عامًا، كان فيها سيدنا أيوب صابرًا شاكرًا ذاكرًا مع شدة بلائه، وأوحى اللّهُ إليه أن يضربَ الأرضَ برجلِه، فضربَها فنبعَتْ عَينينِ، شربَ من واحدةٍ فتعافَى باطِنُه واغتسلَ بالأخرى فتعافى ظاهرُه، وأذهبَ اللهُ عنه ما كان يجدهُ من الألم والأذَى والسقم والمرَض، وأبدلَهُ بعد ذلك صحةً ظاهرةً وباطنة وجمالاً تامًّا.
 
ولما اغتسلَ من هذا الماءِ المبارك أعادَ الله لحمَهُ وشعرَهُ وبشرَهُ على أحسنِ ما كان، وأنزلَ له ثَوبين من السماءِ أبيضينِ، التَحَفَ بأحدِهما من وسطهِ، ووضعَ الآخرَ على كتفيهِ ثم أقبل يمشي إلى منزلِهِ، وأبطأ على زوجتِهِ حتى لقِيَتْهُ مِن دونِ أن تعرفَه، فسلَّمتْ عليه وقالت (يرحمُكَ الله، هل رأيتَ ذاكَ الرجلَ المبتلَى)؟
 
قال (من هو)؟
 
قالت (نبيّ الله أيوب) أمَا واللهِ ما رأيتُ أحدًا قطّ أشبهَ به منكَ عندما كان صحيحًا.
قال (فإني أيوبُ)، وردَّ اللهُ إلى زوجةِ سيدِنا أيوب شبابَها ونضارتَها فولدت له سبعةً وعشرين ذكرًا، عِوضًا عن الذين ماتوا سابقاً، وأقبلت سَحابةٌ وصبَّتْ في بيدر قمحهِ ذهبًا حتى امتلأ، ثم أقبلتْ سحابةٌ أخرى إلى بيدر شعيرهِ وحبوبهِ فسكبَتْ عليه فضة حتى امتلأ.
 
ثم حدثت له معجزةٌ أخرى إِذ أرسلَ الله تعالى سحابةً على قدرِ قواعدِ دارهِ، فأمطرتْ ثلاثةَ أيام بلياليها جرادًا من ذهب.
وقد رفعَ الله عن سيدِنا أيوب الشدةَ وكشفَ ما به من ضُرّ رحمةً منه ورأفةً وإحسانًا.وجعل قصتَهُ ذكرى للعابدينَ، تُصَبّرُ من ابتُليَ بما هو أعظمُ من ذلكَ، فصبرَ واحتسبَ حتى فرَّجَ اللهُ عنهُ.
 
وعاشَ سيدُنا أيوبُ عليه السلامُ بعد ذلكَ سبعينَ عامًا يدعو إلى دين الإسلام، ولما ماتَ غيّرَ الكفارُ الدينَ وعبدوا الأصنامَ والعياذُ باللهِ تعالى. والحمد لله رب العالمين.
 
8- في هذا اليوم حصلت غزوة ذات الرّقاع:
 
وفي يوم عاشوراء حصلت غزوة ذات الرقاع في السنة الرابعة للهجرة، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة ومعه من أصحابه سبعمائة مقاتل يريد قبائل من نجد وهم بنو محارب وبنو ثعلبة من بني غطفان وكانوا قد غدروا بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وقتلوا سبعين من الدعاة الذين أرسلهم النبي للدعوة إلى دين الإسلام وتعليم الناس الخير، وبعد أن تهيأ المشركون لقتال النبي وأصحابه لَما علموا بخروجه وتقارب الفريقان قذف الله الرعب في قلوب قبائل المشركين فهربوا تاركين وراءهم نساءهم، فلم تقع حرب وقتال وكفى الله نبيه ومن معه من الصحابة شرّ هذه الجموع الكافرة.
 
وسُميت بذات الرقاع لأن الصحابة لفوا على أرجلهم الخِرَق بسبب ما أصاب أقدامهم في هذه الغزوة من جراح تساقطت فيها أظافرهم لما اصطدمت بالحجارة والصخور.
 
ولما رجع رسولُ الله وأصحابه من هذه الغزوة أدركهم وقت القيلولة في واد كثير الأشجار ونزل الصحابة وتفرقوا يستظلون الشجر ونزل النبي وحده تحفه العناية الربانية وعلق بالشجرة سيفه الزاهر، وبينما هو نائم تسلل إليه مشرك وأخذ بسيف النبي وتصدى له يريد أن يفتك به، فما انتبه النبي إلا وهذا المشرك فوقه والسيف في يده وهو يقول للنبي (من يمنعك مني)، فيجيبه النبي صلى الله عليه وسلم بلسان التوكل على الله (الله) فيسقط السيف من يد المشرك فيأخذه النبي ويقول له (من يمنعك مني) فيقول له المشرك (كن خير ءاخذ)، فتركه النبي وعفا عنه فذهب المشرك إلى قومه وهو يقول جئتكم من عند خير الناس.
 
9- في هذا اليوم استُشهد الإمام الحُسين:
 
وفي اليوم العاشر من شهر محرم سنة إحدى وستين من الهجرة جرت حادثة مروعة مفجعة ومصيبة كبرى فظيعة ألمت بالمسلمين وأفجعتهم وملأت القلوب حزنا وأسى ومرارة ففي يوم الجمعة في العاشر من شهر محرم، قُتل الإمام أبو عبد الله الحُسين بن علي، حفيد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ابن بنته فاطمة الزهراء رضي الله عنهم على أيدي فئة ظالمة، فمات الحُسين شهيدا سعيدا، وهو ابن ست وخمسين سنة، وهـو الذي قال فيه الرسول وفي أخيه (الحَسَن والحُسَين سيدا شباب أهل الجنة) رواه الترمذي وأحمد والطبراني، ودعــا رسول الله للحَسَن والحُسَين فقال (اللّهُمّ إني أحبُّهما فأحِبَّهُما) رواه الترمذي، وقال الرسول عنهما (هُما ريحانتاي من الدنيا) رواه البخاري.
 
وكان كبار الصحابة يحترمونه ويجلونه كما كان هو يحترمهم ويجلهم، وكان سيدنا عمر يجعل له عطاء وكان يكرمه، وحصل أن أبا هريرة مرة لما كان في جنازة نفض الغبار عن قدم الحسين بثوبه، وفي حديث رواه الحاكم (من احبني فليحبَ حسينًا)، وقد قال سيدنا علي في وصف الحسين أشبه برسول الله من صدره الى قدميه، وفي حديث رواه الترمذي (حُسين منى وأنا من حُسين).
 
وروى البخاري عن عبد الله بن عمر أن رجلا من أهل العراق سأله عن المحرم يقتل الذباب فقال: أهلُ العراق يسألون عن قتل الذباب، وقد قتلوا ابن بنت رسول الله وقد قال رسول الله (هما ريحانتاي من الدنيا).
 
وروى الإمام أحمد استأذن مَلَكُ القَطْر (المطر) على النبي، فقال النبي: يا أم سلمة احفظي علينا الباب لا يدخل علينا أحد، فجاء الحسين فاقتحم وجعل يتوثب على النبي، ورسول الله يقبله، فقال الملك: أتُحِبُّهُ، قال: نعم، قال: إن أمتك ستقتله وإن شئت أريتُك المكان الذي يُقتل فيه، قال: نعم فجاء بتراب أحمر، مد هذا الملك يده إلى كربلاء وأحضر شيئا من ترابها، فأراه للنبي ثم أخذت أم سلمة هذا التراب فصرّته في صُرة (في طرف ثوبها).
 
وملخص ما حصل أن أهل الكوفة لما بلغهم موت معاوية وخلافة يزيد، كتبوا كتابا إلى الحسين عليه السلام يدعونه إليهم ليبايعوه فكتب لهم جوابا مع رسولهم وسيّر معهم ابن عمه مسلم بن عقيل فلما وصل إليهم اجتمع بعض أنصاره عليه وأخذ عليهم العهد والميثاق بالبيعة للحسين وأن ينصروه ويحموه، ثم تواترت الكتب إلى الحسين من جهة أهل العراق وجاء كتاب مسلم بن عقيل بالقدوم عليه بأهله، فلما علم بذلك يزيد ولى العراق عبيد الله بن زياد فبعث إلى مسلم بن عقيل يضرب عنقه ورماه من القصر إلى العامة فتفرق مَلَؤهم وتبددت كلمتهم، هذا وقد تجهز الحسين من الحجاز إلى العراق ولم يشعر بما وقع وما علم بشيء من ذلك، لأن الحسين خرج من مكة قبل مقتل مسلم بيوم واحد، فأشار عليه أهل الرأي والمحبة له بعدم الخروج إلى العراق منهم أبو سعيد وجابر وابن عباس وابن عمر وأمروه بالمقام بمكة وذكروه ما جرى لأبيه وأخيه معهم.
 
فأما ابن عباس فقد كلّمه أكثر من مرة فمن جملة ما قال له: إن أهل العراق قومُ غَدرٍ فلا تغترَّنَّ بهم، أقم في هذا البلد وإلا فسر إلى اليمن فإن به حصونا وشعابا ولأبيك به أنصارا، فقال الحسين: يا ابن عم، والله إني لأعلم أنك ناصح شفيق ولكني قد أجمعت المسير، فقال له: فإن كنت ولا بد سائرا فلا تسر بأولادك ونسائك فوالله إني لخائف أن تقتل كما قتل عثمان ونساؤه وولده ينظرون إليه.
 
وأما ابن عمر فقد لحقه على مسيرة ليلتين أو ثلاث من المدينة فقال له لا تأتهم، فقال له الحسين: هذه كتبهم وبيعتهم، فقال له ابن عمر: إن الله خيّر نبيه بين الدنيا والآخرة فاختار الآخرة ولم يرد الدنيا وإنك بَضعة من رسول الله والله لا يليها أحد منكم وما صرفها الله عنكم إلا للذي هو خير لكم، فأبى أن يرجع، فاعتنقه ابن عمر وبكى وقال: استودعك الله من قتيل.
 
وأما ابن الزبير: فقال له: أين تذهب ؟ الى قوم قتلوا أباك وطعنوا أخاك!.
 
وأما أبو سيعد الخدري فقال: يا أبا عبد الله: إني لكم ناصح وإني عليكم مشفق فلا تخرج إليهم سمعت أباك يقول بالكوفة: والله قد مللتهم وأبغضتهم.
 
وكذلك كلّمه جابر بن عبد الله، وكلّمه آخرون، ولكن لا يكون إلا ما قدّر الله.
 
فانطلق الإمام الحسين ومعه أصحابه ومعه من أهل بيته حتى إذا وصل إلى العراق وقد عرف ماذا فعل عبيد الله بن زياد وعرف تَخَلّي أهل العراق عنه ولم يجد أحدا منهم.
 
وبعثَ إليه عبيد الله بن زياد بكتيبة فيها أربعة آلاف يتقدمهم عمرو بن سعد أو عمر بن سعد فالتقوا بمكان يقال له كربلاء فطلب منهم الحسين إحدى ثلاث:
 
أ – إما أن يدعوه يرجع من حيث جاء
 
ب – وإما أن يذهب إلى ثغر من الثغور فيقاتل فيه
 
ج – أو يتركوه يذهب إلى يزيد
 
فوافــــق عمــر بن سعد، وأرسل يخبر ابن زياد بذلك، فأرسل ابن زياد إلى عمر بن سعد، أن لا يوافق حتى يأتي ابن زياد ويبايعه يعني ليبايع يزيدا، وقد أشار على ابن زياد هذا الرأي شـِمْـر بن ذي الجَوشن قبحه الله، فقال الحسين: والله لا أفعل، فعمر بن سعد تباطأ في القتال فأرسل ابنُ زياد شـِمْـرَ بن ذي الجَوشن، وقال له: إن تقدم عمر فقاتل وإلا فاقتله وكن مكانه، فتحول بعض الجيش الذين كانوا مع عمر بن سعد إلى صف الحسين لما علموا من إصرار أولئك على قتل الحسين، واما هذا عمر بن سعد ءاثر الدنيا وخاف على منصبه، فحاصروا الحسين ومن معه حصارا شديدا حتى منعوا عنهم الماء، فلما أصبح الصباح، وكان يوم العاشر من محرم تهيأ الحسين ومعه اثنان وثلاثون فارسا وأربعون راجلا، وتهيأ عمر بن سعد ومعه أربعة آلاف مقاتل، وقاتل أصحاب الحسين بين يديه حتى تفانوا، وكان أول قتيل من أهل الحسين علي الأكبر بن الحسين، فخرجت زينب أخت الحسين تنكب عليه ثم أدخلها الحسين بيده الفُسطاط (وهو البيت من الشعر).
 
ثم قتل عبد الله بن مسلم بن عقيل ثم قتل عون ومحمد ابنا عبد الله بن جعفر ثم قتل عبد الرحمن وجعفر ابنا عقيل بن أبى طالب ثم قتل القاسم بن الحسن بن علي بن أبى طالب وكذلك قتل عبد الله بن الحسين وأبو بكر والعباس وعثمان وجعفر ومحمد بنو علي ابن أبي طالب اخوة الحسين.
 
ومكث الحسين وحده لا يأتي إليه أحد إلا رجع عنه، حتى اشتد عطش الحسين فحاول أن يصل إلى أن يشرب من ماء الفرات فما قدر بل مانعوه عنه فخلص إلى شربه منه، فرماه رجل بسهم في حلقه فجعل الدم يسيل منه فدعا عليهم.
 
وهذا الرجل الذي رماه ما مكث إلا يسيرا حتى صب الله عليه الظمأ فجعل لا يروى ويسقى الماء مبردا وتارة يبرد له الماء واللبن جميعا أهلكه الله.
 
ثم التف حوله أولئك الظلمة، والحسين يجول فيهم بالسيف يمينا وشمالا وهم يتنافرون منه حتى تقدم رجل يقال له زُرعة بن شُرَيْك التميمي فضربه على يده اليسرى وضربه ءاخر على عاتقه وطعنه سنان بن أنس بالرمح فوقع فتقدم أحدهم ليقطع رأسه فشُلت يمينه ثم نزل شـمـر بن ذي الجَوشن ففصل رأسه عن جسده، وقيل ثم جاء عشرة من الخيالة داسوا عليه ذهابا وإيابا.
 
ووُجِد بالحسيــن حين قُتـل ثلاث وثلاثون طعنة وأربع وثلاثون ضربة، وهمّ شـمـر أن يقتل علي الأصغر ابن الحُسين زين العابدين وهو صغير مريض ولكن منعوه عنه.
قُتل من أصحاب الحسين اثنان وسبعون نفسا ومن أهل البيت قريب العشرين مع الحسين.
 
جعفر والعباس ومحمد وعثمان وأبو بكر (أولاد علي)، علي الأكبر وعبد الله (أولاد الحسين) عبد الله والقاسم وأبو بكر (بنو الحسن بن علي) عون ومحمد (من أولاد عبد الله بن جعفر).
جعفر وعبد الله وعبد الرحمن ومسلم من أولاد عقيل وعبد الله بن مسلم بن عقيل ومحمد بن أبى سعيد بن عقيل وقتل كذلك أخوه من الرضاعة عبد الله بن بُقْطُر.
 
وكان عمر الحسين يوم قتل ستا وخمسين سنة وكان استشهاده يوم الجمعة في العاشر من محرم سنة إحدى وستين من الهجرة الشريفة فأخذوا رأس الحسين ورؤس أصحابه (وكان يرى بعض الناس نورا ساطعا من رأس الحُسين إلى السماء وطيورا بيضاء ترفرف حوله) إلى ابن زياد ثم حملهم إلى يزيد بن معاوية، فلما وضع رأس الحسين بين يدي يزيد، يقال إنه جعل ينكت بقضيب كان في يده في ثغره، فقال له أبو بَرزة الأسْلَمي: والذي لا اله إلا هو لقد رأيت شفتي رسول الله على هاتين الشفتين يقبلهما، ألا إن هذا سيجيء يوم القيامة وشفيعه محمد وشفيعك ابن زياد، ثم قام من مجلسه وانصرف.
 
أما بقية أهل الحسين ونسائه ومعهم زين العابدين علي بن الحسين فحملهم ابن زياد إلى يزيد كذلك وبقوا هناك فترة ثم أوصلهم الى المدينة المنورة.
 
ووضع رأس الحسين في دمشق فترة وقيل ثم نقل إلى القاهرة وقيل غير ذلك، وأما جسده الشريف فدُفنَ في كربلاء.
هذا يزيد تظاهر أنه ما أراد قتل الحسين، ولكن لم يفعل شيئا بالقتلة.
 
وروى الحافظ ابن عساكر أن طائفة من الناس ذهبوا في غزوة إلى بلاد الروم فوجدوا مكتوبا في كنيسة:
 
أترجو أمةٌ قَتَلَت حُسينـًا *** شفاعةَ جَدّهِ يومَ الحساب
 
فسألوهم من كتب هذا فقالوا: إن هذا مكتوب ههنا من قبل مبعث نبيكم بثلاثمائة سنة.
 
وروى الإمام أحمد عن ابن عباس قال: رأيت رسول الله في المنام نصف النهار أشعث أغبر معه قارورة فيها دم، فقلتُ: بأبي وأمي يا رسول الله ما هذا، قال (هذا دم الحسين وأصحابه لم أزل التقطُه منذ اليوم).
 
فكتبوا ذلك اليوم الذي قال فيه وتلك الساعة حتى جاءهم الخبر بالمدينة أنه قُتل في ذلك اليوم وتلك الساعة.
 
وكل من شارك في قتله مات ميتة سوء وأكثرهم أصابهم الجنون وأصيبوا بمرض وعاهات في الدنيا، وهذا ابن زياد ما مكث بعد ذلك يسيرا إلا وقطعت رأسه.
 
ونتذكر في هذه المصيبة ما رواه الحسين عن جده رسول الله أنه قال (ما من مسلم يصاب بمصيبة فيتذكرها وإن تقادم عهدها فيُحدِثُ لها استرجاعا إلا أعطاه الله من الأجر مثل يوم أصيب منها) رواه الإمام أحمد وابن ماجه.
وهذا الذي حصل للحسين فهو شبيه بما حصل لنبي الله يحيى قتله ملك من الكفار ثم الله سلّط على هذا الملك ملكا جبارا كافرا فقتل في يوم واحد سبعين ألفا من جنود هذا الملك.
 
كثير من الأنبياء قتلهم الكفار، الدنيا ليس لها قدر عند الله لو كان لها قدر لا يصاب نبي بمصيبة، الآخرة هي دار الجزاء لأوليائه ولأعدائه.