إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد: 

أيّام التّشريق الثّلاثة وحكم الصّيام فيها
 
الحمدُ لله ربِّ العالمين والصلاةُ والسلامُ على سيّدنا محمّدٍ الصادقِ الوعدِ الأمينِ وعلى إخوانِهِ النبيّينَ والمرسلينَ، لما كان عيد النحر أكبر العيدين وأفضلهما ويجتمع فيه شرف المكان والزمان لأهل الموسم كانت لهم فيه معه أعياد قبله وبعده، فقبله يوم عرفة، وبعده أيام التشريق، وكل هذه الأيام أعيادٌ لأهل الموسم كما في حديث عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال قال رسول الله ‏صلى الله عليه وسلم (يَومُ عَرَفَةَ ويَومُ النَّحرِ وأَيَّامُ التَّشرِيقِ عِيدُنَا أَهلَ الإسلامِ وهي أَيَّامُ أَكلٍ وشُربٍ) خرجه أهل السنن وصححه الترمذي، ولهذا لا يشرع لأهل الموسم صوم يوم عرفة لأنه أول أعيادهم وأكبر مجامعهم وقد أفطره النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة والناس ينظرون إليه، وأيام التشريق الثلاثة هي أيام عيد أيضا، ولهذا بعث النبي صلى الله عليه وسلم من ينادي بمكة أنها أيام أكل وشرب وذكر الله عز وجل، فلا يصومن أحدٌ.
ففي صحيح مسلم عَنْ ابْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ حَدَّثَهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَهُ وَأَوْسَ بْنَ الْحَدَثَانِ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ، فَنَادَىَ (أَنَّهُ لاَ يَدْخُلُ الجَنَّةَ إِلاَّ مُؤْمِنٌ، وَأَيَّامُ مِنىً أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ).
وخرّج مسلم في صحيحه عَنْ نُبَيْشَةَ الْهُذَلِيِّ، ‏قال ‏قال رسول الله ‏صلى الله عليه وسلم (‏أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَذِكْرٍ لِلهِ) ورواه الامام مالك وأحمد وأبو داود والنسائي.
أيام منى هي الأيام المعدودات التي قال الله عز وجل ‏(وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ) (البقرة 203) وهي ثلاثة أيام بعد يوم النحر وهي أيام التشريق، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (أيَّام منىً ثلاثةٌ، (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ)) (البقرة 203) خرجه أهل السنن الأربعة الترمذي النسائي أبو داود وابن ماجه ورواه الإمام أحمد والدارمي وهذا صريح في أنها أيام التشريق، وقد أمر الله عز وجل بذكره في هذه الأيام المعدودات كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (إنها ‏أيام أكل وشرب وذكر لله) وذكر الله عز وجل المأمور به في أيام التشريق أنواع متعددة:
منها ذكر الله عز وجل عقب الصلوات المكتوبات بالتكبير في أدبارها وهو مشروع إلى آخر أيام التشريق ومنها ذكره بالتسمية والتكبير عند ذبح النسك فإن وقت الهدايا والأضاحي يمتد إلى آخر أيام التشريق.
ومنها ذكر الله عز وجل على الأكل والشرب فإن المشروع في الأكل والشرب أن يـسمى الله في أوله وبحمده في آخره وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ‏عن ‏أنس بن مالك ‏‏قال قال رسول الله ‏صلى الله ‏عليه ‏وسلم (إنَّ الله لَيَرْضَىَ عَنِ الْعَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الأَكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا، أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا) رواه مسلم والترمذي.
ومنها ذكره بالتكبير عند رمي الجمار أيام التشريق وهذا يختص به أهل الموسم.
ومنها ذكر الله تعالى المطلق فإنه يستحب الإكثار منه في أيام التشريق وقد كان عمر يكبر بمنى في قبته فيسمعه الناس فيكبرون فترتج منى تكبيرا.
 
ففي صحيح البخاري ‏‏باب التَّكْبِيرِ أَيَّامَ مِنًى وَإِذَا غَدَا إِلَى عَرَفَةَ وَكَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُكَبِّرُ فِي قُبَّتِهِ بِمِنًى فَيَسْمَعُهُ أَهْلُ الْمَسْجِدِ، فَيُكَبِّرُونَ وَيُكَبِّرُ أَهْلُ الْأَسْوَاقِ حَتَّى تَرْتَجَّ مِنًى تَكْبِيرًا، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُكَبِّرُ بِمِنًى تِلْكَ الْأَيَّامَ وَخَلْفَ الصَّلَوَاتِ وَعَلَى فِرَاشِهِ وَفِي فُسْطَاطِهِ وَمَجْلِسِهِ وَمَمْشَاهُ تِلْكَ الْأَيَّامَ جَمِيعًا، وَكَانَتْ مَيْمُونَةُ تُكَبِّرُ يَوْمَ النَّحْرِ، وَكُنَّ النِّسَاءُ يُكَبِّرْنَ خَلْفَ أَبَانَ بْنِ عُثْمَانَ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ لَيَالِيَ التَّشْرِيقِ مَعَ الرِّجَالِ فِي الْمَسْجِدِ‏.
 
وقد قال الله تعالى (فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آَبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ‏ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) (البقرة 200 -201) وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم (إنها أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَذِكْرٍ لِلهِ) إشارة إلى أن الأكل في أيام الأعياد والشرب إنما يستعان به على ذكر الله عز وجل وطاعته.
 
وإنما نهي عن صيام أيام التشريق لأنها أعياد للمسلمين مع يوم النحر فلا تصام بمنى ولا غيرها، وفي النهي عن صيام هذه الأيام والأمر بالأكل فيها والشرب سر حسن، وهو أن الله تعالى لما علم ما يلاقي الوافدون إلى بيته من مشاق السفر وتعب الإحرام وجهاد النفوس على قضاء المناسك شرع لهم الاستراحة عقيب ذلك بالإقامة بمنى يوم النحر وثلاثة أيام بعده وأمرهم بالأكل فيها من لحوم نسكهم لطفا من الله بهم ورأفة ورحمة، وشاركهم أيضا أهل الأمصار في ذلك لأن أهل الأمصار شاركوهم في حصول المغفرة والاجتهاد في عشر ذي الحجة بالصوم والذكر والاجتهاد في العبادات وشاركوهم في حصول المغفرة وفي التقرب إلى الله بإراقة دماء الأضاحي فشاركوهم في أعيادهم واشترك الجميع في الراحة في أيام الأعياد بالأكل والشرب كما اشتركوا جميعا في أيام العشر في الاجتهاد في الطاعة.
فأيام التشريق يجتمع فيها للمؤمنين نعيم أبدانهم بالأكل والشرب ونعيم قلوبهم بالذكر والشكر وبذلك تتم النعمة وذلك من تمام شكر النعمة أن يستعان بها على الطاعات وأما من استعان بنعم الله على معاصيه فما شكره حق شكره، وقد قال بعض الواعظين:
 
إذا كنت في نعمة فارعها *** فإن المعاصي تزيل النعم
وداوم عليها بشكر الإله *** فشكر الإله يزيل النقم.
 
فائدة استطرادية:
مما يدل على أن يوم النحر هو يوم الحج الأكبر ما رواه البخاري ‏أن ‏أبا هريرة ‏قال بَعَثَنِي أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيمَنْ يُؤَذِّنُ يَوْمَ النَّحْرِ بِمِنًى لَا يَحُجُّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ وَيَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ يَوْمُ النَّحْرِ، وَإِنَّمَا قِيلَ الْأَكْبَرُ مِنْ أَجْلِ قَوْلِ النَّاسِ الْحَجُّ الْأَصْغَرُ، فَنَبَذَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى النَّاسِ فِي ذَلِكَ الْعَامِ، فَلَمْ يَحُجَّ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ الَّذِي حَجَّ فِيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُشْرِكٌ.
 
ونقول في حكم الصوم في أيام التشريق، أنّ أيام التشريق هي الأيام الثلاثة التي بعد يوم النحر وفي حكم الصوم فيها تفصيل حاصله أن اليومين الأولين لا يجوز صومهما إلا لشخص واحد فيجوز له صومهما دون غيره وهو المتمتع الذي لا يجد هديا، واليوم الذي بعدهما فالمشهور يكره تعيينه بالنذر كصومه تطوعا ولا يحرم وإن لم يعينه كأن نذر صوم كل خميس فصادف رابع النحر أو نذر السنة فيجب صومه، وقيل لا يجوز صومه إلا لثلاثة أشخاص فيجوز لهم صومه ولا يجوز صومه لغيرهم وهم المتمتع والناذر ومن كان في صيام متتابع لنحو كفارة فلا يبتدأ فيه كفارة بخلاف الإتمام، فمذهبنا السادة المالكية أنه لا يجوز ولا يصحّ صوم يوم العيدين، ولا يجوز صوم اليومين الأولين من أيّام التّشريق (إلاّ لمتمتّع لم يجد هديا ومثله القارن والمفتدى الَّذِي لم يجد هديا وكذلك من وجب عليه الدّم لنقص في الحجّ (ترك طواف القدوم مثلا)) وَأَمَّا الْيَوْم الثالث فيكره صومه لمتطوّع ويصومه من نذره أو من كان في صيام متابع قبل ذالك، ففي المنتقى شرح الموطأ للفقيه المالكي أبي الوليد الباجي الأندلسي (المتوفى 474 هـ) كتاب الحج، مَا جَاءَ فِي صِيَامِ أَيَّامِ مِنَى (ص) (مَالِكٌ عَنْ أَبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ صِيَامِ أَيَّامِ مِنَى).
(ش) نَهْيُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صِيَامِ أَيَّامِ مِنَى يَقْتَضِي مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ النَّهْيَ الْعَامَّ عَنْ صِيَامِهَا عَلَى كُلِّ حَالٍ غَيْرَ أَنَّ الْعُلَمَاءَ قَدْ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ وَتَأَوَّلُوا نَهْيَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ بَعْدَ هَذَا فَذَهَبَ مَالِكٌ إلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَصُومَهَا الْمُتَطَوِّعُ وَمَنْ صَامَ يَوْمًا مِنْ أَيَّامِ مِنَى مُتَطَوِّعًا فَلْيُفْطِرْ مَتَى مَا ذَكَرَ مِنْ نَهَارِهِ قَالَهُ أَشْهَبُ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِفِطْرِهِ فَمَتَى مَا ذَكَرَ لَزِمَهُ أَنْ يَفْطُرَ وَيَرْجِعَ إلَى مَا أُمِرَ بِهِ.
(مَسْأَلَةٌ) وَأَمَّا صِيَامُهَا عَلَى وَجْهِ النَّذْرِ فَإِنَّهُ لَا خِلَافَ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ صَوْمُ الْيَوْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ عَنْ نَذْرٍ مُعَيَّنٍ وَلَا غَيْرِ مُعَيَّنٍ، وَاخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ فِي صِيَامِهِمَا عَنْ صَوْمٍ وَاجِبٍ مُتَتَابِعٍ فِي كَفَّارَةٍ، وَأَمَّا الْيَوْمُ الرَّابِعُ فَإِنَّهُ يَصُومُهُ عَنْ نَذْرِهِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي تَعْيِينَهُ بِالنَّذْرِ، وَاتَّفَقَ مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ عَلَى أَنَّهُ يُجْزِئُ أَنْ يُصَامَ فِي صَوْمِ الْكَفَّارَةِ الْمُتَتَابِعِ). انتهى
 
والله أعلم وأحكم.