إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد:
هذا الطّيْرُ المُسَمَّى السَّمَنْدل ويُقال له السّمَنْد بلا لام، ويُقال له السَّنْدَل بالسِـّين، هذا معروف أنّه لا يحصل له احتراق، جلدُه لا يحترق بالنار وهو هذا الحيوان في حَياتِه يدخُل النّار ويتهَنَّأ فيها لا يتأذّى وهو عَزيز الوجود.
يقول ابنُ خِلِّكَان في تاريخه عن اللُّغَويِّ المشهور عبد اللّطيف البَغدادي، هذا من أئِمّة اللغة يقول شاهَدْتُ قِطعةً من جِلْد السَّمَنْدل أهْدِيَت إلى المَلِك الظّاهر ابنِ المَلِك الصّالح صَلاَحِ الدّين عرضَ ذراع في طولِ ذراعين صارُوا يغمِسُونها في الزّيت ثم يُشْعِلُونها فتنشَعِلُ النّار ثمّ تنطفىء النّار وتَبْقَى تِلْك القِطْعة بَيْضاءَ نَقِيَّة، وحيوانه في حال حياته هكذا يدخل النار ولا يؤثّر فيه وهو كغيره من الحيوانات مؤلَّف من لحم ودَمٍ وعَظْم، فلو كانت النارُ تخلقُ الإحراقَ بطبْعها لم يحصلْ تخلُّق الإحراقِ للسَّمَنْدل إذا مسَّتْه النّار بل كانَ يحتَرقُ كَما يحتَرِقُ غَيْرُه، قال بعضُ الشُّعراء في ذلك:
نَسْجُ داودَ لم يُفِدْ ليْلَة الغار *** وكانَ الفَخَارُ للعَنْكَبُوتِ
معناه ليلةَ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار هو وأبو بكر حماهُما اللهُ تعالى بنَسْج العَنكبوت فكان الفَضْلُ لنَسْج العَنْكَبُوتِ ولم يكنْ هذا الفَضْلُ لنسج داود نسجُ داود هو الدِّرع، معناه الله تعالى لم يَحمِهما بنسج داود بل حمَاهُما بنسج العنكبوت وهو منَ الخَلْقِ الضَّعِيْف، قال:
وبَقَاءُ السَّمَنْدِ في لَهَبِ النَّار *** مُزِيْلٌ فضِيْلةَ الياقُوتِ
يعني أنّ عَدَمَ احتراق السَّمنْد في لهب النّار يَدُلُّ على أنّ له مِيْزَةً ليْسَت للياقوت.
فالحاصل أنّه يجب اعتقاد أنّ الأسباب لا تَخلُق مسَبَّباتها بل اللهُ يخلُق المُسَبَّبَات إثْرَ الأَسْباب أي أنّه تعالى هو خالق الأسْباب وخالِقُ مسَبَّبَاتها وعلَى هذا المعنى يُشْهَرُ ما شاع وانتشر على ألسِنَةِ المسلمين في أثْناء أدعِيَتِهم، يا مُسَبِّبَ الأَسْباب، معناه أنّ اللهَ تعالى هو الذي خلق في الأسْباب حُصولَ مُسَبّباتها إِثْر استعمالِها وهذا من كلامِ التّوحيد الذي هو اشْتَهَر وفَشَى على ألْسِنَةِ المسلمين علمائِهم وعوَامِـّهم وهو يرجِعُ إلى توحيد الأفعال أي أنّ الله تبارك وتعالى هو الذي فِعْلُه لا يَتَخلَّفُ أثَرُه إذا شاءَ حصُولَ شىء إثْر مزاولَةِ شىء حصل لا مَحَالة لا بُدَّ، فكما أنَّ اللهَ تبارك وتعالى هو خالق المُسَبَّبات إثْرَ استعمال الأَسباب فَهو خالقُ العبادِ حركاتِهم وسكناتهم لا خالق لشىءٍ من ذلك غيرُه، فالإنسانُ مكتَسِبٌ لأَعْماله الاختياريّة ليس خالقاً بل اللهُ خالِقُها هذه الحركات التي نتحركُها للخير أو للشر، الله تبارك وتعالى هو خالِقها فينا هو الذي يُجْرِيْها على أيْدِيْنا، لسنا نحن نخلقُها ولا فرق في ذلك بين أعمالنا التي هي حسنات وبين أعمالنا التي هي سيّئات، المُرادُ بالحسنات هنا الطّاعات والمراد بالسيئات المعاصي فالطاعات من الإيمان وما يتبَعُه من صلاةٍ وصيامٍ وإلى غير ذلك ممّا لا يُحصى والسّيئات من الكفر وما بعده كلّ ذلك بخلق الله تعالى، هذا الاعتقادُ هو اعتقادُ الفِرقة النّاجيةِ وهم الصّحابةُ الذين تلقوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم المعتقد الإيمانيَّ ثم تلقىَّ منهم التابعون ثم أتباع التابعين تلقَّوْه ممَّن لقُوْه وهلُمَّ جرَّا هذا هو عقيدةُ الفِرقةِ الناجية وتسميَتُهم الفِرقَةَ الناجية ليس لأقلّيّـتهم بالنّسبة للفرق المنتسبة للإسلام المخالفة لهم بل هذه الفرقة الناجية هي الأكثر أمّا أولئك الفِرقُ المخالفةُ التي خالفت الفرقةَ الناجية في معتقدها فأولئك وإن تعدَّدت أسماؤهم فقد بلغت إلى اثنتين وسَبْعينَ فرقة فإنهم الأقلّ وهذه الفرق الاثنتان والسّبعون الشاذّة التي هي ضالة كثير منها انقرضوا ولم يبق إلاّ أقلُهم وقد حذَّر رسول الله صلى الله عليه وسلّم من الخروج عن جماعة المسلمين أي جمهورهم الذين هم يكونون على ما كان عليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في الاعتقاد وإن ابتعد أكثرهم من حيث الأعمال لما وقعوا فيه من التّقصير والإهْمال للعمل بما يجب عليهم من الأعمال البدنيّة لكنّهم من حيث المعتقد فهم على ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلّم.