إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد: 

لا يَصِحُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ الدُّعَاءُ الَّذِي فِيهِ (إِنْ كُنْتَ كَتَبْتَنِي فِي أُمِّ الْكِتَابِ عِنْدَكَ شَقِيًّا فَامْحُ عَنِّي اسْمَ الشَّقَاءِ وَأَثْبِتْنِي عِنْدَكَ سَعِيدًا….) الحديث.
 
اللَّه تَعَالَى إِذَا قَدَّرَ أَنَّ وَاحِدًا مِنْ عِبَادِهِ يُصِيبُهُ كَذَا لا بُدَّ أَنْ يُصِيبَهُ ذَلِكَ الشَّىْءُ وَلَوْ تَصَدَّقَ ذَلِكَ الإِنْسَانُ صَدَقَةً أَوْ دَعَا أَوْ وَصَلَ رَحِمَهُ أَوْ عَمِلَ إِحْسَانًا لِأَقَارِبِهِ لِأُمِّهِ وَأُخْتِهِ وَعَمَّتِهِ وَخَالَتِهِ وَأَبِيهِ وَجَدِّهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِهِ لَوْ عَمِلَ لَهُمْ إِحْسَانًا لا بُدَّ أَنْ يَتَنَفَّذَ مَا قَدَّرَ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَ هَذَا الإِنْسَانَ، وَلا يَجُوزُ أَنْ يَعْتَقِدَ الإِنْسَانُ أَنَّهُ إِنْ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ أَوْ وَصَلَ رَحِمَهُ أَوْ دَعَا دُعَاءً يَنْجُو مِمَّا قَدَّرَ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُ كَمَا يَزْعُمُ بَعْضُ النَّاسِ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ أَنَّهُمْ إِنْ دَعَوِا اللَّهَ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ يَذْهَبُ عَنْهُمْ شَىْءٌ قَدَّرَ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ، وَهَذَا بِخِلافِ الَّذِي يَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ كَتَبَ قَدَرًا مُعَلَّقًا بِأَنَّ فُلانًا إِنْ فَعَلَ كَذَا يُصِيبُ كَذَا مِنْ مَطَالِبِهِ أَوْ يُدْفَعُ عَنْهُ شَىْءٌ مِنَ الْبَلاءِ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ كَذَا لا يَنَالُ مَا طَلَبَهُ فَهَذَا جَائِزٌ لِأَنَّ الْمَلائِكَةَ يَكْتُبُونَ فِي صُحُفِهِمْ عَلَى وَجْهِ التَّعْلِيقِ عَلَى حَسَبِ مَا يَتَلَقَّوْنَ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى فَهَذَا لا يُنَافِي الإِيمَانَ بِالْقَدَرِ.
 
أَمَّا إِنْ قَالَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الأَزَلِ أَنْ يُصِيبَنِي هَذَا الشَّىْءُ إِنْ لَمْ أَفْعَلْ كَذَا أَوْ كَذَا مِنْ صِلَةِ الرَّحِمِ أَوِ التَّصَدُّقِ وَنَحوِ ذَلِكَ لَكِنْ عَلِمَ أَنَّهُ إِنْ دَعَوْتُ أَوْ تَصَدَّقْتُ بِصَدَقَةٍ أَوْ أَحْسَنْتُ إِلَى أَهْلِي وَإِلَى رَحِمِي يُنْجِينِي مِنْ ذَلِكَ أَسْلَمُ بِالدُّعَاءِ أَوْ بِالصَّدَقَةِ أَوْ بِصِلَةِ الرَّحِمِ، هَذَا لا ضَرَرَ فِيهِ.
 
وَأَمَّا الَّذِي يَدْعُو فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ بِنِيَّةِ أَنْ يَسْلَمَ مِمَّا قَدَّرَ اللَّهُ وَعَلِمَ أَنَّهُ يُصِيبُهُ لا مَحَالَةَ هَذَا كَافِرٌ لِأَنَّهُ جَعَلَ اللَّهَ مُتَغَيِّرَ الْمَشِيئَةِ وَالْعِلْمِ، وَتَغَيُّرُ الْعِلْمِ وَالْمَشِيئَةِ مِنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) [سورة الرّحمـٰن29] فَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ يُغَيِّرُ مَشِيئَتَهُ بِاخْتِلافِ الأَزْمَانِ وَالأَحْوَالِ بَلْ مَعْنَاهُ يَخْلُقُ خَلْقًا جَدِيدًا، كُلَّ يَوْمٍ يُغَيِّرُ فِي خَلْقِهِ وَلا يَتَغَيَّرُ فِي عِلْمِهِ وَمَشِيئَتِهِ.
 
وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) فَمَعْنَاهُ كَمَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ عَبَّاسٍ تَرْجُمَانُ الْقُرْآنِ إِنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ الَّتِي هِيَ مِنْ رَمَضَانَ هِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي يُفْرَقُ فِيهَا كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَيْ كُلُّ أَمْرٍ مُبْرَمٍ، أَيْ أَنَّهُ يَكُونُ تَقْسِيمُ الْقَضَايَا الَّتِي تَحْدُثُ لِلْعَالَمِ مِنْ تِلْكَ اللَّيْلَةِ إِلَى مِثْلِهَا فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ مِمَّا يَحْدُثُ فِي تِلْكَ السَّنَةِ مِنْ مَوْتٍ وَصِحَّةٍ وَمَرَضٍ وَفَقْرٍ وَغِنًى وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَطْرَأُ مِنَ الأَحْوَالِ الْمُخْتَلِفَةِ مِنْ تِلْكَ اللَّيْلَةِ إِلَى مِثْلِهَا فِي الْعَامِ الْقَابِلِ، وَلَيْسَ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ كَمَا يَظُنُّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ.
 
وَإِنَّمَا الَّذِي وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ (يَطَّلِعُ اللَّهُ إِلَى خَلْقِهِ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ إِلَّا لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ) رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحِهِ.
وَالْمُشَاحِنُ مَعْنَاهُ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُسْلِمٍ آخَرَ عَدَاوَةٌ وَحِقْدٌ وَبَغْضَاءُ، أَمَّا مَنْ سِوَى هَذَيْنِ فَكُلُّ الْمُسْلِمِينَ يُغْفَرُ لَهُمْ يُغْفَرُ لِبَعْضٍ جَمِيعُ ذُنُوبِهِمْ وَلِبَعْضٍ بَعْضُ ذُنُوبِهِمْ.
 
أَمَّا الْحَدِيثُ الآخَرُ (فَيَغْفِرُ لِأَكْثَرَ مِنْ عَدَدِ شَعْرِ غَنَمِ كَلْبٍ) فَغَيْرُ صَحِيحٍ، رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالتِّرْمِذِيُّ وَضَعَّفَهُ.
 
فَلِذَلِكَ لا يَصِحُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدُّعَاءُ الَّذِي فِيهِ (إِنْ كُنْتَ كَتَبْتَنِي فِي أُمِّ الْكِتَابِ عِنْدَكَ شَقِيًّا فَامْحُ عَنِّي اسْمَ الشَّقَاءِ وَأَثْبِتْنِي عِنْدَكَ سَعِيدًا، وَإِنْ كُنْتَ كَتَبْتَنِي فِي أُمِّ الْكِتَابِ مَحْرُومًا مُقَتَّرًا عَلَيَّ رِزْقِي فَامْحُ عَنِّي حِرْمَانِي وَتَقْتِيرَ رِزْقِي وَأَثْبِتْنِي عِنْدَكَ سَعِيدًا مُوَفَّقًا لِلْخَيْرِ، فَإِنَّكَ تَقُولُ فِي كِتَابِكَ (يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ) [سُورَةَ الرَّعْد39] وَلا مَا أَشْبَهَهُ).
 
إِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَلا الْتِفَاتَ إِلَى نِسْبَةِ هَذَا الذِّكْرِ الَّذِي يَعْمَلُ بِهِ بَعْضُ النَّاسِ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ الَّذِي أَوَّلُهُ (يَا مَنْ يَمِنُّ وَلا يُمَنُّ عَلَيْهِ)، وَفِيهِ (اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ كَتَبْتَنِي فِي أُمِّ الْكِتَابِ شَقِيًّا أَوْ مَحْرُومًا أَوْ مُقَتَّرًا عَلَيَّ رِزْقِي فَامْحُ اللَّهُمَّ شَقَاوَتِي وَالإِقْتَارَ عَلَيَّ فِي رِزْقِي) إِلَى عُمَرَ وَمُجَاهِدٍ وَغَيْرِهِمَا مِنَ السَّلَفِ، فَلا يَثْبُتُ شَىْءٌ مِنْ ذَلِكَ كَمَا أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ الْقَدَرِ، وَقَدْ ذَكَرَ الْبَيْهَقِيُّ أَنَّ مُجَاهِدًا قَالَ (ذَلِكَ فِي السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ) ثُمَّ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ فِي الْعَامِ الَّذِي يَلِيهِ.