إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد: 

ذِكْرُ دُخُولِ الْجُنُبِ الْمَسْجِدَ
 
قال الإمام المجتهد أبو بكر محمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري (المتوفى 319 هـ) في كتابه الأوسط في السنن والإجماع والاختلاف (اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي دُخُولِ الْجُنُبِ الْمَسْجِدَ فَكَرِهَتْ (أَيْ حَرَّمَتْ) طَائِفَةٌ ذَلِكَ وَرَخَّصَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَمُرَّ فِي الْمَسْجِدِ، فَمِمَّنْ رَخَّصَ لِلْجُنُبِ أَنْ يَمُرَّ فِيهِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنُ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَقَالَ جَابِرٌ (كَانَ أَحَدُنَا يَمُرُّ فِي الْمَسْجِدِ وَهُوَ جُنُبٌ).
حَدَّثَنَا عَلِيٌّ أَخْبَرَنَا حَجَّاجٌ أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ (كَانَ أَحَدُنَا يَمُرُّ فِي الْمَسْجِدِ وَهُوَ جُنُبٌ).
حَدَّثَنَا عَلِيٌّ أَخْبَرَنَا أَبُو نُعَيْمٍ أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الرَّازِيُّ عَنْ زَيْدِ بنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بنِ يَسَارٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ﴿وَلا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ﴾ (سُورَةَ النِّسَاء 43)، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىَ تَغْتَسِلُوا﴾ (سُورَةَ النِّسَاء 43) أَيْ لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ سُكَارَى وَلا جُنُبًا أَيْ وَلا تُصَلُّوا جُنُبًا غَيْرَ عَابِرِي سَبِيلٍ أَيْ جُنُبًا مُقِيمِينَ غَيْرَ مُسَافِرِينَ أَيْ لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ غَيْرُ مُغْتَسِلِينَ حَتَّى تَغْتَسِلُوا إِلَّا أَنْ تَكُونُوا مُسَافِرِينَ عَادمين الماء مُتَيَمِمِينَ، عَبَّرَ عَنِ الْمُتَيَمِّمِ بِالْمُسَافِرِ لِأَنَّ غَالِبَ حَالِهِ عَدَمُ الْمَاءِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ) أَيْ مَوَاضِعَ الصَّلاةِ وَهِيَ الْمَسَاجِدُ (وَلا جُنُبًا) أَيْ وَلا تَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ إِلَّا مُجْتَازِينَ فِيهِ، قَالَ (إِلَّا وَأَنْتَ مَارٌّ فِيهِ).
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيْمِ الْجَزَرِيِّ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ كَانَ يُرَخِصُّ لِلْجُنُبِ أَنْ يَمُرَّ فِي الْمَسْجِدِ مُجْتَازًا وَلا أَعْلَمُهُ إِلَّا قَالَ ﴿وَلا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ﴾، وَقَالَ عَمْرُو بنُ دِينَارٍ (يَمُرُّ الْجُنُبُ فِي الْمَسْجِدِ)، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ (إِذَا لَمْ يَجِدْ طَرِيقًا غَيْرَهُ مَرَّ فِيهِ)، وَقَالَ مَالِكٌ (لا يَدْخُلُ الْجُنُبُ الْمَسْجِدَ إِلَّا عَابِرَ سَبِيلٍ)، وَكَذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَقَالَ الْحَسَنُ (تَمُرُّ الْحَائِضُ فِي الْمَسْجِدِ وَلا تَقْعُدُ فِيهِ)، وَقَالَ مَالِكٌ (الْحَائِضُ لا تَدْخُلُ الْمَسْجِدَ).
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ (لا يَمُرُّ الْجُنُبُ فِي الْمَسْجِدِ إِلَّا أَنْ لا يَجِدَ بُدًّا فَيَتَيَمَّمُ وَيَمُرُّ فِيهِ)، وَكَذَا قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَإِسْحَاقُ بنُ رَاهَوَيْه.
وَقَالَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ (كَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ) فِي الْجُنُبِ الْمُسَافِرِ يَمُرُّ عَلَى مَسْجِدٍ فِيهِ عَيْنُ مَاءٍ (يَتَيَمَّمُ الصَّعِيدَ وَيَدْخُلُ الْمَسْجِدَ فَيَسْتَقِي ثُمَّ يُخْرِجُ الْمَاءَ مِنَ الْمَسْجِدِ).
وَرَخَّصَتْ طَائِفَةٌ لِلْجُنُبِ فِي دُخُولِ الْمَسْجِدِ وَذَهَبَتْ إِلَى أَنَّ تَأْوِيلَ قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وَلا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ﴾ مُسَافِرِينَ لا يَجِدُونَ مَاءً فَيَتَيَمَّمُونَ، رُوِيَ هَذَا الْقَوْلُ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَابْنِ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنِ بنِ مُسْلِمِ بنِ يَنَاقٍ وَقَتَادَةَ.
حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بنُ يَحْيَى أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بنُ مُوسَى عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى عَنِ الْمِنْهَالِ عَنْ زِرٍّ عَنْ عَلِيٍّ فِي قَوْلِهِ ﴿وَلا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ﴾ قَالَ (لا يَقْرَبُ الصَّلاةَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُسَافِرًا تُصِيبُهُ الْجَنَابَةُ فَيَتَيَمَّمُ وَيُصَلِّي حَتَّى يَجِدَ الْمَاءَ).
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ عَلِيٍّ أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بنُ شَبِيبٍ أَخْبَرَنَا يَزِيدُ أَخْبَرَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ لاحِقِ بنِ حُمَيْدٍ وَهُوَ أَبُو مِجْلَزٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَتَأَوَّلُهَا ﴿وَلا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ﴾ يَقُولُ (أَنْ لا يَقْرَبَ الصَّلاةَ وَهُوَ جُنُبٌ إِلَّا وَهُوَ مُسَافِرُ تُصِيبُهُ الْجَنَابَةُ فَيَتَيَمَّمُ وَيُصَلِّي حَتَّى يَجِدَ الْمَاءَ).
وَقَالَ زَيْدُ بنُ أَسْلَمَ (كَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلامُ يَمْشُونَ وَهُمْ جُنُبٌ فِي الْمَسْجِدِ).
وَقَالَ أَحْمَدُ فِي الْجُنُبِ (إِذَا تَوَضَّأَ لا بَأْسَ أَنْ يَجْلِسَ فِي الْمَسْجِدِ) وَكَذَلِكَ قَالَ إِسْحَاقُ) انْتَهَى كَلامُ ابْنِ الْمُنْذِرِ رَحِمَهُ اللَّهُ.