إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد: 

باب الأذان
 
الأذان لغة الإعلام، قال الله تعالى (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ) الحج 27، وشرعا قول مخصوص يعلم به وقت الصلاة المفروضة والأصل فيه قبل الإجماع، قوله سبحانه (وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) المائدة 58، وقوله عز وجل (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) الجمعة 9، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (إِذَا حَضَرَتِ الصَّلاَةُ فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ) الحديث رواه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، وقوله صلى الله عليه وسلم (لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا عليه، ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه، ولو يعلمون ما في العتمة والصبح، لأتوهما ولو حبوا) رواه البخاري، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (المؤذنون أطول الناس أعناقا يوم القيامة) رواه مسلم، وقول عبد الله بن زيد بن عبد ربه لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناقوس يعمل ليضرب به للناس لجمع الصلاة طاف بي وأنا نائم رجل يحمل ناقوسًا في يده، فقلت يا عبد اللّه أتبيع الناقوس؟ قال وما تصنع به؟ فقلت ندعو به إلى الصلاة، قال أفلا أدلُّك على ما هو خير من ذلك؟ فقلت له بلى، قال تقول الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا اللّه، أشهد أن لا إله إلا اللّه، أشهد أن محمداً رسول اللّه، أشهد أن محمداً رسول اللّه، حَيَّ على الصلاة، حي على الصلاة، حَيَّ على الفلاح، حيَّ على الفلاح، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا اللّه.
قال ثم استأخر عني غير بعيد، ثم قال ثم تقول إذا أقمت الصلاة الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا اللّه، أشهد أن محمداً رسول اللّه، حيّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح، قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا اللّه.
فلما أصبحت أتيت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فأخبرته بما رأيت فقال (إنها لرؤيا حقّ إن شاء اللّه، فقم مع بلالٍ فألق عليه ما رأيت فليؤذِّن به، فإِنه أندى صوتاً منك)، فقمت مع بلال، فجعلت ألقيه عليه ويؤذن به.
قال فسمع ذلك عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) وهو في بيته، فخرج يجرّ رداءه ويقول والذي بعثك بالحق يا رسول الله لقد رأيت مثل ما رأى، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) (فللَّهِ الحمد). رواه أبو داود وأحمد والحاكم وصححه الترمذي وابن خزيمة وابن حبان وزاد أحمد في ءاخره قصة قول بلال رضي الله عنه في أذان الفجر الصلاة خير من النوم.
 
وعن محمد بن عبد الملك بن أبي محذورة، عن أبيه عن جده قال قلت يا رسول اللّه علِّمني سنة الأذان، قال فمسح مقدّم رأسي وقال (تقول الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر ترفع بها صوتك ثم تقول أشهد أن لا إله إلاّ اللّه، أشهد أن لا إله إلا اللّه، أشهد أن محمداً رسول اللّه، أشهد أن محمداً رسول اللّه تخفض بها صوتك، ثم ترفع صوتك بالشهادة أشهد أن لا إله إلا اللّه، أشهد أن لا إله إلا اللّه، أشهد أن محمداً رسول اللّه، أشهد أن محمداً رسول اللّه، حيَّ على الصلاة، حيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح، حيَّ على الفلاح، فإِن كان صلاة الصبح قلت الصلاة خيرٌ من النوم، الصلاة خيرٌ من النوم، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا اللّه) رواه مسلم والنسائي وأبو داود واللفظ له.
 
وجاء في إكمال المعلم بفوائد صحيح مسلم للقاضى عياض رحمه الله تعالى (باب صفة الأذان)
حَدَّثَنِى أَبُو غَسَّانَ المِسْمَعِىُّ مَالِكُ بْنُ عَبْدِ الوَاحِدِ وَإِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ أَبُو غَسَّانَ حَدَّثَنَا مُعَاذٌ، وَقَالَ إِسْحاَقُ أَخْبَرَنَا مُعَاذٌ بْنُ هِشَامٍ صَاحِبِ الدَّسْتَوَائِىِّ، وَحَدَّثَنِى أَبِى عَنْ عَامِرٍ الأَحْوَلِ، عَنْ مَكْحُولٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُحَيْرِيزٍ، عَنْ أَبِى مَحْذُورَةَ أَنَّ نَبِىَّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلمَهُ هَذَا الأَذَانَ (اللهُ أَكْبَرُ، اللهُ أَكْبَرُ أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلا اللهُ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلا اللهُ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ) ثُمَّ يَعُودُ فَيَقُولُ (أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلا اللهُ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلا الله أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ حَىَّ عَلى الصَّلاةِ (مَرَّتَيْنِ)، حَىَّ عَلى الفَلاحِ (مَرَّتَيْنِ)) زَادَ إِسْحَاقُ (اللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ لا إِلهَ إِلا اللهُ).
وذكر مسلم فى تعليم النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأذان لأبى محذورة التكبير أولاً مرتين، كذا فى أكثر الأصول وروايات جماعة شيوخنا، ووقع فى بعض طرق الفارسى [الأذان] أربع مراتٍ، وكذلك اختلف فى أذان عبد الله بن زيد فروى فيه (التكبير أربع مرات)، وروى ثنتان، وبالتربيع قال الشافعى وحجته رواية التربيع وعَملِ أهل مكة، وبالتثنية قال مالك وحجته رواية التثنية، ونقل أهل المدينة المتواترُ خلفٌ عن سلفٍ عن أذان بلالٍ للنبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو آخر أذانه، والذى توفى عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والحجةُ بهذا النقل قطعٌ ضرورىٌ، وقد رجع إليه المخالف عند مشاهدته له وسلمه.
وذكر مسلمٌ الترجيعَ والعودَ إلى الشهادتين مرتين آخرتين، وبهذا قال مالك والشافعى وجمهور العلماء على مقتضى حديث أبى محذورة واستمرار عمل أهل المدينة، وتواتر نقلهم عن أذان بلال، وذهب الكوفيون إلى ترك الترجيع على ما جاء فى حديث عبد الله أن زيد أول أمر الأذان، وما استقر عليه العملُ وكان آخر الفعلين من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أولى، وذهب أهل الحديث أحمدُ وإسحاقُ [ابن راهويه] والطبرى وداود إلى التخيير فى الفعلين، على أصلهم فى الأحاديث إذا صحت واختَلفَت ولم يُعرَف المتأخِّرُ من المتقدم أنها للتوسعة والتخيير، وقد ذكر نحوٌ من هذا عن مالك.
ولم يذكر مسلم فى رواية رفع الصوت ولا خَفضِه، وقد اختلفت الرواية فيه عن أبى محذورة فى غير كتاب مسلم فى مصنف أبى داود وغيره من رواية ابنه عبد الملك (أمره برفع الصوت فى التكبير وخفضه فى التَشَهدَيْنِ، ثم يرفَعُه فى الترجيع بالشهادتين)، ومن رواية مُحيَرْيز لم يذكر خفض الصوت ولا رفْعَه ولكن قال فى الترجيع (ثم ارجع فَمُدَّ من صوتك)، فظاهره أن الحال فى التكبير والتشهدين أولاً سواء، وقد اختلف النقلُ عن مالكٍ بالوجهين، والمشهور عنه رفع الصوت بالتكبير، وأن الخفض والقَصْد منه إنما هو فى التشهدين، وبه عَمِل الناسُ، وقذ اختُلِفَ عليه فى تأويل قوله فى المدوَّنة بالوجْهين، ولكن لا ينتهى الخفض لحدٍ يُخرِجُ عنَ الإعلام، وإنما يكون أخفض من غيرهِ.
ولم يذكر مسلم (الصلاة خير من النوم) وذكره أبو داود وغيرُه أن النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال له حين عَلَّمَه الأذانَ (فإذا كُنتَ فى صلاة الصبح فقل الصلاة خير من النوم، مرتين)، وهو مشروع فى الصلاة، وبه قال جمهور العلماء إِلا أبا حنيفة.
واختلف فى ذلك قول الشافعى، وحجتُهم أنه لم يَرِد فى الأحاديث الأخر، والنقل المتواتر أصبح حجةً مع صِحَّةِ الرواية به، ومالك يرى تثنيته كسائر كلمات الأذان، وابن وهب يُفرده، وهو معنى قوله فى الحديث الآخر (فإذا ثُوبَ بالصلاة أدبر) عند كثير من الشارحين. انتهى كلام القاضي
 
والأَذَان وَالإِقَامَة هُمَا مِنْ خُصُوصِيَّاتِ هَذِهِ الأُمَّةِ كَمَا قَالَهُ السُّيُوطِيّ وَشُرِعَ الأَذَانُ فِي السَّنَةِ الأولَى مِنْ الْهِجْرَةِ وَيَكْفُرُ جَاحِدُهُ لأَنَّهُ مَعْلُومٌ مِنْ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، والأَصَحُّ أَنَّ كُلا مِنْهُمَا سُنَّةٌ عَلَى الْكِفَايَةِ في حق الجماعة، وسنة عين للمنفرد، والإقامة في الأصل مصدر أقام وسمي الذكر المخصوص بها لأنه يقيم إلى الصلاة، وللأذان والإقامة شروط ومكروهات ومبطلات وسنن، وسيأتي بيانها إن شاء الله، وإنما يسن الأذان مع الإقامة في الصلاة المكتوبة ولو فائتة كما ثبت في خبر مسلم، ويسن الأذان في أذن المولود اليمنى والإقامة في اليسرى لخبر ابن السني (من ولد له مولود فأذن في أذنه اليمنى وأقام في اليسرى لم تضره أم الصبيان) أي التابعة من الجن وليكون إعلامه بالتوحيد أول ما يقرع سمعه عند قدومه إلى الدنيا، وإذا تغولت الغيلان، قال الجمهور كانت العرب تزعم أن الغيلان في الفلوات، وهي جنس من الشياطين تتراءى للناس وتتغول لهم تغولا أي تتلون تلونا، والمراد دفع شرها بالأذان، فإن الشيطان إذا سمع الأذان أدبر لحديث (وإذا تغولت الغيلان فنادوا بالأذان) قال الهيثمي ورواه أبو يعلى ورجاله رجال الصحيح.
وينادي ندبا لنفل يصلى جماعة مسنونة كعيد وكسوف واستسقاء وتراويح (الصلاة جامعة) لوروده في الصحيحين في كسوف الشمس وقيس به الباقي، فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال لما كسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم نودي: إن الصلاة جامعة، ومعنى (الصلاة جامعة) أي احضروا الصلاة في حال كونها جامعة.
وعن جابر بن سَمُرة رضي الله عنه قال (صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم العيدين غير مرة ولا مرتين بغير أذان ولا إقامة) رواه مسلم ونحوُه في المتفق عليه عن ابن عباس رضي الله عنه وغيرِه.
وروى الشافعي عن الثقة عن الزهري قال (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر المؤذن في العيدين أن يقول: الصلاة جامعة) وهذا مرسل يعضده القياس على صلاة الكسوف لثبوت ذلك فيها، وما عدا ذلك من منذورة وصلاة جنازة ونفل لا يسن جماعة أو يصلى فرادى لا ينادى له بشىء لعدم وروده فيه.
 
وشروط الأذان والإقامة الإسلام والتمييز، فلا يصحان من كافر وغير مميز من صبي ومجنون وسكران لأنهما عبادة وليسوا من أهلها، وذكورة لغير نساء، فلا يصحان من امرأة وخنثى للرجال، أما النساء فلا يشترط لهن ذكورة بل مذهب الشافعي أنه يسن للمرأة أن تقيم لنفسها ولجماعة النساء، ولا يندب لها الأذان لنفسها ولا للنساء، فإن أذنت سرا أي بلا رفع صوت لم يكره.
 
فائدة:
ذكر الإمام أبو بكر بن المنذر في كتابه الأوسط عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تؤذن وتقيم ثم ذكر عن الإمام الشافعي أنه قال (وإن جمعن وأذّنّ وأقمن فلا بأس)، قال أبو بكر (أي ابن المنذر) الأذان ذكر من ذكر الله فلا بأس أن تؤذن المرأة وتقيم. اهـ
 
قال الإمام المحدث الشيخ عبد الله الهرري في كتابه البغية (ففي ما نقله ابن المنذر عن الشافعي دليل على إباحة الأذان للمرأة وظاهر هذا مخالف لما ذكره بعض الشافعية المتأخرين أنه إن جهرت المرأة بالأذان فوق ما تسمع صواحبها مع وجود أجنبي هناك حرم وهو مخالف لإطلاق لفظ الشافعي). اهـ
 
ومن شروط الأذان والإقامة الوقت إلا أذان الصبح فيصح قبل وقته من بعد نصف الليل، لخبر الصحيحين (إن بلالا يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم)، والمعنى فيه أن وقتها يدخل على الناس وفيهم الجنب والنائم فاستحب تقديم أذانها لينتبهوا ويتهيؤا ويدركوا فضيلة أول الوقت، بخلاف الإقامة فإنها لافتتاح الصلاة فلا تقدم على دخول وقته، ويشترط في الإقامة أن لا يطول الفصل بينها وبين الصلاة قاله في شرح المهذب.
 
ويشترط أيضا الترتيب، والموالاة بين كلماتها أي أن لا يكون فاصل طويل، وعدم بناء غيره على أذانه أو إقامته، وإسماع بعض الجماعة، وإسماع نفسه إن كان منفردا، ولا يصح الأذان للجماعة بالعجمية وهناك من يحسن العربية، بخلاف ما إذا كان هناك من لا يحسنها، فإن أذن لنفسه وكان لا يحسن العربية صح وإن كان هناك من يحسنها، وعليه أن يتعلم حكاه في (المجموع) عن الماوردي وأقره، وهناك شروط أخرى.
 
ومكروهات الأذان والإقامة وقوعهما من محدث لخبر الترمذي (لاَ يُؤَذِّنُ إِلاَّ مُتَوَضِّىءٌ)، وقيس بالأذان الإقامة، والكراهة لجنب أشد وفي الإقامة أغلظ منها أي والإقامة من كل منهما أشد كراهة من أذانهما لقربها من الصلاة، والتغني أي التطريب بهما، والتمطيط أي التمديد، والكلام اليسير فيهما لغير مصلحة فيهما، والقعود فيهما لقادر أو الاضطجاع أو الركوب إلا المسافر الراكب، والتوجه فيهما لغير القبلة، وترك إجابتهما، ووقوعهما من فاسق أو صبي أو أعمى ليس معه بصير يعرف الوقت، ويكره أن يخرج من المسجد بعد الأذان قبل أن يصلي إلا بعذر وغير ذلك.
 
ملاحظة:
فَإِنْ أَحْدَثَ وَلَوْ حَدَثًا أَكْبَرَ فِي أَذَانِهِ اُسْتُحِبَّ إتْمَامُهُ وَلا يُسْتَحَبُّ قَطْعُهُ لِيَتَوَضَّأَ لِئَلَّا يُوهِمَ التَّلَاعُبَ، فَإِنْ تَوَضَّأَ وَلَمْ يَطُلْ زَمَنُهُ بَنَى عَلَى أَذَانِهِ وَالاسْتِئْنَافُ أَوْلَى كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَالأَصْحَابُ.
وسن لهما القيام لخبر الصحيحين (قم يا بلال فناد بالصلاة)، وتوجه للقبلة لأنها أشرف الجهات، وتحويل وجه لا صدر في الحيعلتين مرتين مرة في الأولى يمينا ومرة في الثانية شمالا لثبوته في خبر الصحيحين في الأذان عن عون بن أبي جحيفة عن أبيه قال: وأذن بلال، فجعلت أتتبع فاه ههنا وههنا (يقول يمينا وشمالا) يقول: حي على الصلاة حي على الفلاح، ولأبي داود (لوى عنقه لما بلغ حي على الصلاة يمينا وشمالا ولم يستدر)، وقيس به الإقامة.
ويسن للأذان مؤذن حر صيت أي عالي الصوت لقوله صلى الله عليه وسلم (ألقه على بلال فإنه أندى صوتا منك) أي أبعد مدى في صوته، حسن الصوت ليرق قلب السامع ويميل إلى الإجابة لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر نحوا من عشرين رجلا فأذنوا، فأعجبه صوت أبي محذورة، فعلمه الأذان. رواه ابن خزيمة والدارمي
ويسن لأذان وضع مسبحته في صماخي أذنيه دون الإقامة لأنه أجمع لصوته ويعرف به الأذان من لا يسمعه لقول أبي جحيفة رضي الله عنه: رأيت بلالا يؤذن وأتتبع فاه ههنا وههنا وإصبعاه في أذنيه. رواه أحمد والترمذي وصححه ولابن ماجه (وجعل إصبعه في أذنيه).
ويسن في الأذان الترتيل أي التأني فيه بأن يأتي بكلماته مبينة، وفي الإقامة الإدراج أي الإسراع بها مع بيان حروفها، للأمر به في خبر الترمذي والحاكم وصححه أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال لبلال (إذا أذنت فترسل (تمهل) في أذانك، وإذا أقمت فاحدر (أسرع) واجعل بين أذانك وإقامتك مقدار ما يفرغ الآكل من أكله).
فيستحب في الأذان أن يجمع بين التكبيرتين بنفس واحد، فيقول في أول الأذان الله أكبر الله أكبر بنفس واحد، ثم يقول الله أكبر الله أكبر بنفس آخر، ويفرد باقي كلماته، وفي الإقامة يجمع بين كل كلمتين بنفس ويفرد الأخيرة، والحكمة فيه أن الأذان لإعلام الغائبين فالترتيل فيه أبلغ والإقامة لاستنهاض الحاضرين فالإدراج فيها أشبه.
ويسن في الأذان الترجيع بأن يأتي بالشهادتين مرتين بخفض صوته قبل قولهما برفعه لوروده في خبر مسلم وغيره عن أبي محذورة أن النبي علمه الأذان، فذكر فيه الترجيع، والحكمة فيه أن يأتي بالشهادتين بتدبر وإخلاص، وهل الترجيع اسم للسر أو الجهر؟ لأنه رجع إلى الرفع بعد تركه أو إلى الشهادتين بعد ذكرهما أو للمجموع، جزم في شرح المهذب والتحرير بالأول وفي شرح مسلم بالثاني وفي الروضة كالشرحين بالثالث.
ويسن الأذان للصبح مرتين.
ويسن التثويب في أذاني الصبح أداء وكذا قضاء، وهو قوله بعد الحيعلتين (الصلاة خير من النوم) مرتين لوروده في خبر أبي داود وغيره بإسناد جيد كما مر، وخص بالصبح لما يعرض للنائم من التكاسل بسبب النوم، ويكره أن يثوب لغير أذان الصبح.
ولابن خزيمة والبيهقي عن أنس رضي الله عنه قال (من السنة إذا قال المؤذن في الفجر حي على الفلاح قال الصلاة خير من النوم).
وسمي تثويبا من ثاب إذا رجع لأن المؤذن دعا إلى الصلاة بالحيعلتين ثم دعا إليها بقوله الصلاة خير من النوم أي اليقظة للصلاة خير من الراحة التي تحصل من النوم.
ويسن أن لا يقطع الأذان والإقامة بكلام ولا غيره كنوم وسكوت فإن فعل ذلك كره لأنه يخل بالإعلام فإن طال الفصل بطل، فإن عطس [بفتح الطاء] المؤذن أو المقيم في أثناء ذلك سن له أن يحمد الله في نفسه ويبني، وأن يؤخر رد السلام إذا سلم عليه غيره، والتشميت إذا عطس غيره وحمد الله تعالى إلى الفراغ، فيرد ويشمت حينئذ، فإن رد أو شمت أو تكلم بمصلحة لم يكره، وكان تاركا للسنة، ولو رأى أعمى مثلا يخاف وقوعه في بئر وجب إنذاره.
ويسن في الأذان دون الإقامة، رفع الصوت قدر الإمكان بحيث لا يلحقه ضرر إلا إذا كان في نحو مسجد وقعت فيه جماعة وانصرفوا لئلا يتوهم السامعون دخول وقت الصلاة الأخرى ولا سيما في يوم الغيم، لحديث البخاري عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة الأنصاري، ثم المازني، عن أبيه أنه أخبره أن أبا سعيد الخدري قال له إني أراك تحب الغنم والبادية، فإذا كنت في غنمك، أو باديتك، فأذنت بالصلاة فارفع صوتك بالنداء فإنه (لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء، إلا شهد له يوم القيامة) قال أبو سعيد: سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويسن أن يؤذن على موضع عال كمنارة وسطح لخبر الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما قال كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذنان بلال وابن أم مكتوم الأعمى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم) قال (ولم يكن بينهما إلا أن ينـزل هذا ويرقى هذا). اهـ
فإن لم يكن للمسجد منارة ولا سطح فعلى بابه بخلاف الإقامة لا تسن على عال إلا في نحو مسجد كبير فيحتاج فيه إلى علو للإعلام بها.
ويسن أن يكون المؤذن من ولد مؤذني رسول الله صلى الله عليه وسلم كبلال وابن أم مكتوم وأبي محذورة وسعد القَرَظِ، فإن لم يكن فمن أولاد مؤذني أصحابه فإن لم يكن منهم فمن أولاد الصحابة، ذكره في المجموع. ففي الحديث عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (والأذان في الحبشة) رواه الترمذي.
ويستحب أن يكون المؤذن متطوعا متبرعا، لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال لعثمان بن أبي العاص رضي الله عنه (واتخذ مؤذنا لا يأخذ على أذانه أجرا) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي والنسائي وحسنه الترمذي وصححه الحاكم.
وعَن ابنِ عَبَّاسٍ قَالَ إنَّ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (مَنْ أَذَّنَ سَبْعَ سِنِينَ مُحْتَسِباً كُتِبَتْ لَهُ بَرَاءَةٌ مِنَ النَّارِ) رواه الترمذي وابن ماجه.
وعن عبد الله بن عمرو قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (المؤذن المحتسب كالشهيد المتشحط في دمه [المتخبط والمضطرب والمتمرغ] إذا مات لم يدود في قبره) رواه الطبراني في الكبير.
ويسن مؤذنان للمسجد يؤذن واحد قبل الفجر وآخر بعده.
ويقام ندبا لفوائت وإن توالت ولا يؤذن لغير الأولى منها إن توالت أي إن أراد قضاءها في وقت واحد، وكذا إن عقبها بحاضرة بلا فصل طويل، نعم إن دخل وقتها كأن صلى فائتة قبل الزوال وأذن لها فلما فرغ منها زالت الشمس أذن للظهر للإعلام بوقتها ومثله ما لو أخر مؤداة لآخر وقتها فأذن لها وصلى فدخل وقت ما بعدها فيؤذن لها أيضا.
فعن أبي قتادة رضي الله عنه في الحديث الطويل في نومهم عن الصلاة (ثم أذن بلال فصلى النبي صلى الله عليه وسلم كما كان يصنع كل يوم) رواه مسلم.
وإن جمع تقديما أو تأخيرا أذن وأقام للأولى وحدها وأقام للثانية.
فقد روى مسلم عن جابر رضي الله عته أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى مزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين.
ويسن أيضا أن يكون كل من المؤذن والمقيم عدلا ويسن للمؤذن والمقيم ترك المشي فيهما.
ويستحب أن تكون الإقامة في غير موضع الأذان وبصوت أخفض من الأذان.
وهناك سنن أخرى.
 
ووقت الأذان منوط بنظر المؤذن، ولا يحتاج فيه إلى مراجعة الإمام، وأما الإقامة بنظر الإمام فلا يقيم إلا بإذنه لقوله صلى الله عليه وسلم (المؤذن أملك بالأذان، والإمام أملك بالإقامة) رواه ابن عدي من رواية أبي هريرة، فلو أقام المؤذن بغير إذن الإمام اعتد به.
والأصح أن الأذان أفضل من الإمامة، والله أعلم.
 
ويسن أن يفصل المؤذن والإمام بين الأذان والإقامة بقدر اجتماع الناس في مكان الصلاة، وبقدر أداء السنة التي قبل الفريضة، ويفصل بينهما في المغرب بنحو سكتة لطيفة كقعود لطيف لضيق وقتها، ولاجتماع الناس لها قبل وقتها عادة، وعلى ما صححه النووي من أن للمغرب سنة قبلها يفصلها بقدر أدائها أيضا.
 
فائدة:
ورد في الحديث (ومن أذن فهو يقيم) رواه أحمد في مسنده وأبو داود والترمذي وابن ماجه.
والأذان تسع عشرة كلمة بالترجيع لأنه صلى الله عليه وسلم علمه أبا محذورة كذلك رواه الشافعي وصححه ابن حبان.
 
والإقامة إحدى عشرة كلمة لثبوته في الصحيحين.
فعَنْ أَنَسٍ قَالَ (أُمِرَ بِلالٌ أَنْ يَشْفَعَ الأَذَانَ وَأَنْ يُوتِرَ الإِقَامَةَ إِلا الإِقَامَةَ) رواه البخاري ومسلم وللنسائي (أمر النبي صلى الله عليه وسلم بلالا).
قوله (أن يشفع) بفتح أوله وفتح الفاء أي يأتي بألفاظه شفعا.
 
ورواه عبد الرزاق عن معمر عن أيوب بسنده متصلا بالخبر مفسرا ولفظه (كان بلال يثني الأذان ويوتر الإقامة، إلا قوله قد قامت الصلاة) وأخرجه أبو عوانة في صحيحه والسراج في مسنده وكذا هو في مصنف عبد الرزاق، وللإسماعيلي من هذا الوجه (ويقول قد قامت الصلاة مرتين).
وأما قوله (وَيُوتِرَ الإِقَامَةَ) فمعناه يأتي بها وتراً ولا يثنيها بخلاف الأذان.
وقوله (إِلاَّ الإِقَامَةَ) معناه إلا لفظ الإقامة، وهي قوله: قد قامت الصلاة، فإنه لا يوترها بل يثنيها.
 
واختلف العلماء (رضي الله عنهم) في لفظ الإقامة فالمشهور من مذهب (الشافعي) الذي تظاهرت عليه نصوص الشافعي (رضي الله عنه) وبه قال أحمد وجمهور العلماء أن الإقامة إحدى عشرة كلمة الله أكبر الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة حي على الفلاح، قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله.
قال الخطابي مذهب جمهور العلماء والذي جرى به العمل في الحرمين والحجاز والشام واليمن ومصر والمغرب إلى أقصى بلاد الإسلام أن الإقامة فرادى.
يقول ابن عمر رضي الله عنهما كان الأذان على عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) مرتين مرتين، والإقامة مرة مرة غير أنه يقول (قد قامت الصلاة) مرتين، فإذا سمعنا الإقامة توضأنا ثم خرجنا إلى الصلاة. رواه الحاكم
ويسن لسامع ومستمع مثل قول المؤذن والمقيم لقوله صلى الله عليه وسلم (إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذن) رواه البخاري ومسلم، ويقاس بالمؤذن المقيم.
ويسن إن كان السامع أو المستمع يقرأ القرءان أو يسبح أو يقرأ حديثا أو غير ذلك أن يقطع للإجابة، ثم يعود إلى ما كان فيه، أو في طواف أن يجيب فيه، وأن يجيب بعد الجماع والخلاء والصلاة ما لم يطل الفصل.
 
فائدة:
من كان في صلاة لا يستحب له الإجابة، بل تكره فإن قال في التثويب (صدقت وبررت)، أو قال (حي على الصلاة )، أو (الصلاة خير من النوم)، بطلت صلاته، وإن أجاب في أثناء الفاتحة وجب استئنافها. اهـ
قال في (المجموع ) وإذا سمع مؤذنا بعد مؤذن فالمختار أن أصل الفضيلة في الإجابة شامل للجميع، إلا أن الأول متأكد يكره تركه.
وعقب كل كلمة يسن أن يجيب مثله إلا في الحيعلتين فيقول عقب كل من الأذان والإقامة لا حول ولا قوة إلا بالله، لخبر مسلم (إذا قال المؤذن الله أكبر الله أكبر، فقال أحدكم: الله أكبر الله أكبر، ثم قال أشهد أن لا إله إلا الله، قال أشهد أن لا إله إلا الله، ثم قال: أشهد أن محمدا رسول الله، قال أشهد أن محمدا رسول الله، ثم قال حي على الصلاة، قال لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال حي على الفلاح، قال لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال الله أكبر الله أكبر، قال الله أكبر الله أكبر، ثم قال لا إله إلا الله، قال لا إله إلا الله، من قلبه دخل الجنة).
ومعنى (حي على الفلاح) أي تعالوا إليه، والفلاح الفوز والنجاة وإصابة الخير، فالمعنى حي على الفلاح أي تعالوا إلى سبب الفوز والبقاء في الجنة والخلود في النعيم، والفلاح والفلح، تطلقهما العرب، أيضا، على البقاء.
ومعنى لا حول ولا قوة إلا بالله كما ورد عن ابن مسعود قال (كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فقلتها فقال تدري ما تفسيرها قلت الله ورسوله أعلم قال لا حول عن معصية الله إلا بعصمة الله ولا قوة على طاعة الله إلا بعون الله) أخرجه البزار.
وروى مسلم عن سعد بن أبي وقاص، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال (من قال حين يسمع المؤذن أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأن محمدا عبده ورسوله، رضيت بالله ربا وبمحمد رسولا وبالإسلام دينا، غفر له ذنبه).
قال ابن رمح في روايته (من قال، حين يسمع المؤذن وأنا أشهد) وإلا في التثويب فيقول صدقت وبرِرت أي صرت ذا بر أي خير كثير، وإلا في كلمة الإقامة فيقول أقامها الله وأدامها، لخبر أبي داود أن بلالاً أخذ في الإِقامة فلما أن قال قد قامت الصلاة، قال النبي (صلى الله عليه وسلم) (أقامها الله وأدامها).
 
ويسن لكل من مؤذن ومقيم وسامع أن يصلي ويسلم على النبي صلى الله عليه وسلم بعد فراغه من الأذان والإقامة، لخبر مسلم (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها منـزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة).
 
ثم يقول عقب ذلك اللَّهمَّ ربَّ هذه الدَّعوة (الأذان) التَّامَّة (السالمة من تطرق نقص إليها) والصَّلاة القائمة (أي التي ستقوم)، آت (أعط) محمداً الوسيلة (المنزلة في الجنة) والفضيلة وابعثه مقاماً محموداً الّذي وعدته.
 
والمقام المذكور هو مقام الشفاعة العظمى يوم القيامة في فصل القضاء يحمده فيه الأولون والآخرون، قال الله تعالى (عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً) 79 سورة الإسراء.
 
عن جابر بن عبد اللّه، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من قال حين يسمع النِّداء (اللَّهمَّ ربَّ هذه الدَّعوة التَّامَّة والصَّلاة القائمة، آت محمداً الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاماً محموداً الّذي وعدته، إلاَّ حلَّت له شفاعتي يوم القيامة) رواه البخاري، وفي رواية أحمد والترمذي وابن ماجه وأبي داود (حلَّت له الشَّفاعة يوم القيامة) وفي سنن البيهقي وصحيح ابن حبان (المقام المحمود)، بالتعريف.
 
ويندب الدعاء لكل من المؤذن والمقيم والسامع عقب الأذان وبينه وبين الإقامة، لخبر (الدعاء لا يرد بين الأذان والإقامة) رَوَاهُ أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان عن أنس، ورواه أبو يعلى بلفظ (الدعاء بين الأذان والإقامة مستجاب).
 
وفي سنن أبي داود والترمذي ومستدرك الحاكم، عن أُمّ سلمة رضي اللّه عنها قالت: علَّمني رسولُ اللَّه صلى اللّه عليه وسلم أن أقول عند أذان المغرب (اللَّهُمَّ هَذَا إقْبالُ لَيْلِكَ وَإِدْبَارُ نَهارِكَ وأصْوَاتُ دُعاتِكَ فاغْفِرْ لي).
 
فائدة:
قال الإمام النووي في الأذكار (يُستحبّ أن يقول من سمع المؤذّن والمقيم: مثل قوله، إلا في قوله حيّ على الصلاة، حيّ على الفلاح، فإنه يقول في دُبُر كل لفظة لا حول ولا قوّة إلا باللّه، ويقول في قوله الصلاة خير من النوم صدقتَ وبررتَ، وقيل يقول صدق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الصلاةُ خيرٌ من النوم، ويقول في كلمتي الإِقامة أقامها اللّه وأدامها، ويقول عقيب قوله أشهد أنَّ محمداً رسولُ اللّه وأنا أشهد أن محمداً رسول اللّه، ثم يقول رضيتُ باللّه ربّاً وبمحمدٍ صلى اللّه عليه وسلم رسولاً، وبالإِسلام ديناً، فإذا فرغَ من المتبعة في جميع الأذان صلَّى وسلَّم على النبي صلى اللّه عليه وسلم، ثم قال اللهمّ ربَّ هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آتِ محمّداً الوسيلةَ والفضيلة، وابعثْه مقاماً محموداً الذي وعدته، ثم يدعو بما شاء من أمور الآخرة والدنيا. اهـ
 
فصل في بيان جواز الجهر بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الأذان:
قال الحافظ السيوطي في الوسائل في مسامرة الأوائل ص14 ما نصه (أول ما زيد (الصلاة والسلام) بعد كل أذان في المنارة في زمن السلطان المنصور حاجي بن الأشرف شعبان بن حسين ابن الناصر محمد بن المنصور قلاوون بأمر المحتسب نجم الدين الطنبدي وذلك في شعبان سنة إحدى وتسعين وسبعمائة، وكان حدث قبل ذلك في أيام السلطان صلاح الدين بن أيوب أن يقال في كل ليلة قبل أذان الفجر بمصر والشام (السلام على رسول الله) واستمر ذلك إلى سنة سبع وستين وسبعمائة فزيد بأمر المحتسب صلاح الدين البرلسي أن يقال (الصلاة والسلام عليك يا سيدي يا رسول الله) ثم جعل في عقب كل أذان سنة إحدى وتسعين). اهـ
 
قال الحطاب المالكي في كتابه مواهب الجليل ج 1 – 430 ما نصه وقال السخاوي في القول البديع ص196 (أحدث المؤذنون الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم عقب الأذان للفرائض الخمس إلا الصبح والجمعة فإنهم يقدمون ذلك قبل الأذان وإلا المغرب فلا يفعلونه لضيق وقتها، وكان ابتداء حدوثه في أيام الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب وبأمره وذكر بعضهم لأن أمر الصلاح بن أيوب بذلك كان في أذان العشاء ليلة الجمعة، ثم إن بعض الفقراء زعم أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره أن يقول للمحتسب أن يأمر المؤذنين أن يصلوا عليه عقب كل أذان، فسر المحتسب بهذه الرؤيا فأمر بذلك واستمر إلى يومنا هذا، وقد اختلف في ذلك هل هو مستحب أو مكروه أو بدعة أو مشروع، واستدل للأول بقوله تعالى (وافعلوا الخير) ومعلوم أن الصلاة والسلام من أجلّ القرب لا سيما وقد تواترت الأخبار على الحث على ذلك مع ما جاء في فضل الدعاء عقبه والثلث الأخير وقرب الفجر، والصواب أنه بدعة حسنة ويؤجر فاعله بحسن نيته). اهـ
 
وقال الشيخ محمد بن علان الصديقي في الفتوحات الربانية على الأذكار النووية ج 2 – 113 ما نصه (وفي شرح العباب أفتى شيخنا زكريا وغيره بأن ما يفعله المؤذنون الآن من الإعلان بالصلاة والسلام مرارا حسن لأن ذلك مشروع عقب الأذان في الجملة فالأصل سنة والكيفية حادثة). اهـ
ويكفي في إثبات ذلك كون الجهر بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بدعة مستحبة عقب الأذان قوله عليه الصلاة والسلام (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول. ثم صلوا علي) رواه مسلم، وقوله عليه الصلاة والسلام (من ذكرني فليصل علي) أخرجه الحافظ أبو يعلى والحافظ السخاوي في كتابه القول البديع في الصلاة على النبي الشفيع وقال لا بأس بإسناده، فيؤخذ من ذلك أن المؤذن والمستمع كلاهما مطلوب منه الصلاة على النبي، وهذا يحصل بالسر والجهر.
 
فإن قال قائل لم ينقل عن مؤذني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم جهروا بالصلاة عليه.
قلنا لم يقل النبي لا تصلوا علي إلا سرا، وليس كل ما لم يفعل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حراما أو مكروها، إنما الأمر في ذلك يتوقف على ورود نهي بنص أو استنباط من مجتهد المجتهدين كمالك وأحمد والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم ممن جاء بعدهم من المجتهدين الذين هم مستوفوا الشروط كالحافظ ابن المنذر وابن جرير ممن لهم القياس أي قياس ما لم يرد فيه نص على ما ورد فيه نص، والجهر بالصلاة على النبي عقب الأذان توارد عليه المسلمون من قرون فاعتبره العلماء من محدثين وفقهاء بدعة مستحبة منهم الحافظ السيوطي والسخاوي كما تقدم.
 
فائدة فيها بيان أن الصحابي الجليل الذي شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصلاح عبد الله بن عمر رضي الله عنهما زاد على تشهد رسول الله كلمات، مما يدل على جواز زيادة تناسب الأصل كالجهر بالصلاة على النبي عقب الأذان:
عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في التشهد (السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا اللّه)، قال ابن عمر: زدت فيها (وحده لا شريك له)، (وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله) رواه أبو داود.
 
وفيما ذكرناه من الأدلة كاف وشاف في الرد على المتعنتين وهم فرقة شاذة أنكرت الجهر بالصلاة على النبي عقب الأذان أشد الإنكار فمنهم من جعلها أشد من الزنا بالأم، ومنهم من جعلها أشد من الخمر، ومنهم جعلها كفرا، وقد نقل مفتي مكة المكرمة السيد أحمد زيني دحلان في تاريخه أن محمد بن عبد الوهاب زعيم الحركة الوهابية المتطرفة أفتى بقتل رجل صالح أعمى جهر بالصلاة على النبي عقب الأذان، والعياذ بالله.
 
تنبيه:
فقد ذكر أهل العلم أنه يشترط في حصول ثواب الصلاة على النبي تصحيح حرف الصاد مميزة عن السين، فمن لا يميز بينهما في النطق فلا ينال ثواب الصلاة على النبي، كذلك يشترط عدم زيادة الياء في كلمة (صل) كما يزيد بعض الناس يقولون (اللهم صلي بالياء) وهذا غلط فاحش ينبغي التنبه منه.
يقول العلامة طه بن عمر بن طه بن عمر السقاف الحضرمي الشافعي المتوفى سنة 1063 هـ في كتابه المجموع لمهمات المسائل من الفروع ص 97 ما نصه:
وقال عبد الله بن عمر (من قال في تشهده اللهم صلي لم يجزه ولو جاهلا أو ناسيا بل العامد بالعربية يكفر به لأنه خطاب المؤنث). اهـ
 
فالعناية بحفظ مخارج الحروف أمر مهم، فقد رأى سيدنا عمر رضي الله عنه رجلين يرميان الهدف فأصاب أحدهما وأخطأ الآخر فقال الذي أخطأ للذي أصاب أسبت بالسين، فقال سيدنا عمر (خطؤك في كلامك أشد من خطئك في الرماية)، لأن الرجل قال أسبت بالسين بدل أن يقول أصبت بالصاد، فإذا كان سيدنا عمر استقبح هذا الغلط في أمر الرماية بين اثنين فكيف الغلط في ذكر الله؟!.
 
والحمد لله أولا وآخرا وصلى الله وسلم ومجد وبارك على سيدنا محمد وعلى ءاله وصحبه.