إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد: 

شرح صِفَة الْمُخَالَفَة لِلْحَوَادِثِ للهِ تعالى

يَجِبُ لِلَّهِ تَعَالَى أَنْ يَكُونَ مُخَالِفًا لِلْحَوَادِثِ بِمَعْنَى أَنَّهُ لا يُشْبِهُ شَيْئًا مِنْ خَلْقِهِ فَلَيْسَ هُوَ بِجَوْهَرٍ يَشْغَلُ حَيِّزًا وَلا عَرَضٍ، وَالْجَوْهَرُ مَا لَهُ تَحَيُّزٌ وَقِيَامٌ بِذَاتِهِ كَالأَجْسَامِ، وَالْعَرَضُ مَا لا يَقُومُ بِنَفْسِهِ وَإِنَّمَا يَقُومُ بِغَيْرِهِ كَالْحَرَكَةِ وَالسَّكُونِ وَالِاجْتِمَاعِ وَالِافْتِرَاقِ وَالأَلْوَانِ وَالطُّعُومِ وَالرَّوَائِحِ، وَلِذَلِكَ قَالَ الإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ فِي بَعْضِ رَسَائِلِهِ فِي عِلْمِ الْكَلامِ (أَنَّى يُشْبِهُ الْخَالِقُ مَخْلُوقَهُ) مَعْنَاهُ لا يَصِحُّ عَقْلًا وَلا نَقْلًا أَنْ يُشْبِهَ الْخَالِقُ مَخْلُوقَهُ، وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ (إِنَّ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْنَا وَعَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَعْلَمَهُ أَنَّ رَبَّنَا لَيْسَ بِذِي صُورَةٍ وَلا هَيْئَةٍ فَإِنَّ الصُّورَةَ تَقْتَضِي الْكَيْفِيَّةَ وَهِيَ عَنِ اللَّهِ وَعَنْ صِفَاتِهِ مَنْفِيَّةٌ) رَوَاهُ عَنْهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ.

فمَعْنَى مُخَالَفَة اللَّهِ لِلْحَوَادِثِ أَنَّهُ لا يُشْبِهُ الْمَخْلُوقَاتِ، وَهَذِهِ الصِّفَةُ مِنَ الصِّفَاتِ السَّلْبِيَّةِ الْخَمْسَةِ أَيِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى نَفْيِ مَا لا يَلِيقُ بِاللَّهِ. وَالدَّلِيلُ الْعَقْلِيُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ يُشْبِهُ شَيْئًا مِنْ خَلْقِهِ لَجَازَ عَلَيْهِ مَا يَجُوزُ عَلَى الْخَلْقِ مِنَ التَّغَيُّرِ وَالتَّطَوُّرِ وَالْعَجْزِ وَالضَّعْفِ وَالصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ وَلَوْ جَازَ عَلَيْهِ ذَلِكَ لَاحْتَاجَ إِلَى مَنْ يُغَيِّرُهُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ وَالْمُحْتَاجُ إِلَى غَيْرِهِ لا يَكُونُ إِلَهًا فَوَجَبَ أَنَّهُ لا يُشْبِهُ شَيْئًا، وَالْبُرْهَانُ النَّقْلِيُّ لِوُجُوبِ مُخَالَفَتِهِ تَعَالَى لِلْحَوَادِثِ ءَايَاتٌ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾ وَهُوَ أَوْضَحُ دَلِيلٍ نَقْلِيٍّ فِي ذَلِكَ جَاءَ فِي الْقُرْءَانِ، لِأَنَّ هَذِهِ الآيَةَ تُفْهِمُ التَّنْزِيهَ الْكُلِّيَّ لِأَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ذَكَرَ فِيهَا لَفْظَ شَىْءٍ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، وَالنَّكِرَةُ إِذَا أُورِدَتْ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فَهِيَ لِلشُّمُولِ، فَاللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى نَفَى بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ عَنْ نَفْسِهِ مُشَابَهَةَ الأَجْرَامِ وَالأَجْسَامِ وَالأَعْرَاضِ فَهُوَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى كَمَا لا يُشْبِهُ ذَوِي الأَرْوَاحِ مِنْ إِنْسٍ وَجِنٍّ وَمَلائِكَةٍ وَغَيْرِهِمْ لا يُشْبِهُ الْجَمَادَاتِ مِنَ الأَجْرَامِ الْعُلْوِيَّةِ وَالسُّفْلِيَّةِ، فَاللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَمْ يُقَيِّدْ نَفْيَ الشَّبَهِ عَنْهُ فِي هَذِهِ الآيَةِ بِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْحَوَادِثِ بَلْ شَمَلَ نَفْيَ مُشَابَهَتِهِ لِكُلِّ أَفْرَادِ الْحَادِثَاتِ، وَيَشْمَلُ نَفْيُ مُشَابَهَةِ اللَّهِ لِخَلْقِهِ تَنْزِيهَهُ تَعَالَى عَنِ الْكَمِّيَّةِ وَالْكَيْفِيَّةِ، فَالْكَمِّيَّةُ هِيَ مِقْدَارُ الْجِرْمِ فَهُوَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَيْسَ كَالْجِرْمِ الَّذِي يَدْخُلُهُ الْمِقْدَارُ وَالْمِسَاحَةُ وَالْحَدُّ فَهُوَ لَيْسَ بِمَحْدُودٍ ذِي مِقْدَارٍ وَمَسَافَةٍ وَمَنْ قَالَ فِي اللَّهِ تَعَالَى إِنَّ لَهُ حَدًّا فَقَدْ شَبَّهَهُ بِخَلْقِهِ لِأَنَّ كُلَّ الأَجْرَامِ لَهَا حَدٌّ إِمَّا حَدٌّ صَغِيرٌ وَإِمَّا حَدٌّ كَبِيرٌ وَذَلِكَ يُنَافِي الأُلُوهِيَّةَ، وَاللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَوْ كَانَ ذَا حَدٍّ وَمِقْدَارٍ لَاحْتَاجَ إِلَى مَنْ جَعَلَهُ بِذَلِكَ الْحَدِّ وَالْمِقْدَارِ كَمَا تَحْتَاجُ الأَجْرَامُ إِلَى مَنْ جَعَلَهَا بِحُدُودِهَا وَمَقَادِيرِهَا لِأَنَّ الشَّىْءَ لا يَخْلُقُ نَفْسَهُ عَلَى مِقْدَارِهِ، وَلا يَصِحُّ فِي الْعَقْلِ أَنْ يَكُونَ هُوَ جَعَلَ نَفْسَهُ بِذَلِكَ الْحَدِّ، وَالْمُحْتَاجُ إِلَى غَيْرِهِ لا يَكُونُ إِلَهًا لِأَنَّ مِنْ شَرْطِ الإِلَهِ الِاسْتِغْنَاءَ عَنْ كُلِّ شَىْءٍ.

وقد قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ الطَّحَاوِيُّ (وَمَنْ وَصَفَ اللَّهَ بِمَعْنًى مِنْ مَعَانِي الْبَشَرِ فَقَدْ كَفَرَ) وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْقَرْنِ الثَّالِثِ، فَهُوَ دَاخِلٌ فِي حَدِيثِ (خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ) رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَالْقَرْنُ الْمُرَادُ بِهِ مِائَةُ سَنَةٍ كَمَا قَالَ ذَلِكَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ بنُ عَسَاكِرَ فِي كِتَابِهِ تَبْيِينُ كَذِبِ الْمُفْتَرِي الَّذِي أَلَّفَهُ فِي التَّنْوِيهِ بِأَبِي الْحَسَنِ الأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.