إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد: 

إحياء ليلة النصف من شعبان

 

عن معاذ بن جبل رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (يطلع الله إلى جميع خلقه ليلة النصف من شعبان، فيغفر لجميع خلقه، إلا لمشرك، أو مشاحن) رواه ابن حبان وصححه، قال الحافظ الهيثمي رواه الطبراني في الكبير والأوسط ورجالهما ثقات، قال الحافظ المنذري في الترغيب والترهيب رواه الطبراني في الأوسط وابن حبان في صحيحه والبيهقي ورواه ابن ماجه بلفظه من حديث أبي موسى الأشعري والبزار والبيهقي من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه بنحوه بإسناد لا بأس به.

 

قال أبو عبد الله المواق المالكي في التاج والإكليل لمختصر خليل (وقد رغب في صيام شعبان وقيل فيه ترفع الأعمال ورغب في صيام يوم نصفه وقيام تلك الليلة). اهـ

وقال ابن الحاج المالكي في كتابه المدخل (ليلة نصف شعبان) (فصل) وبالجملة فهذه الليلة، وإن لم تكن ليلة القدر فلها فضل عظيم وخير جسيم وكان السلف رضي الله عنهم يعظمونها ويشمرون لها قبل إتيانها فما تأتيهم إلا وهم متأهبون للقائها، والقيام بحرمتها على ما قد علم من احترامهم للشعائر على ما تقدم ذكره هذا هو التعظيم الشرعي لهذه الليلة). اهـ

في مواهب الجليل في شرح مختصر خليل لشمس الدين أبي عبد الله محمد بن محمد بن عبد الرحمن الطرابلسي المغربي المعروف بالحطاب الرُّعيني المالكي 2 – 193، كتاب الصلاة، فصل صلاة العيدين (وَنُدِبَ إحْيَاءُ لَيْلَتِهِ) قَالَ فِي جَمْعِ الْجَوَامِعِ لِلشَّيْخِ جَلَالِ الدِّينِ السُّيُوطِيّ مَنْ أَحْيَا لَيْلَتَيْ الْعِيدَيْنِ وَلَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ لَمْ يَمُتْ قَلْبُهُ يَوْمَ تَمُوتُ الْقُلُوبُ.

وجاء في حاشية الدسوقي على الشرح الكبير لمحمد بن أحمد بن عرفة الدسوقي المالكي (المتوفى 1230 هـ) 1 – 399 (قَوْلُهُ وَنُدِبَ إحْيَاءُ لَيْلَتِهِ) أَيْ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ (مَنْ أَحْيَا لَيْلَةَ الْعِيدِ وَلَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ لَمْ يَمُتْ قَلْبُهُ يَوْمَ تَمُوتُ الْقُلُوبُ) وَمَعْنَى عَدَمِ مَوْتِ قَلْبِهِ عَدَمُ تَحَيُّرِهِ عِنْدَ النَّزْعِ وَالْقِيَامَةِ بَلْ يَكُونُ قَلْبُهُ عِنْدَ النَّزْعِ مُطْمَئِنًّا، وَكَذَا فِي الْقِيَامَةِ وَالْمُرَادُ بِالْيَوْمِ الزَّمَنُ الشَّامِلُ لِوَقْتِ النَّزْعِ وَوَقْتِ الْقِيَامَةِ الْحَاصِلِ فِيهِمَا التَّحَيُّرُ (قَوْلُهُ وَذِكْرٍ) مِنْ جُمْلَةِ الذِّكْرِ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ (قَوْلُهُ وَيَحْصُلُ بِالثُّلُثِ الْأَخِيرِ مِنْ اللَّيْلِ) وَاسْتَظْهَرَ ابْنُ الْفُرَاتِ أَنَّهُ يَحْصُلُ بِإِحْيَاءِ مُعْظَمِ اللَّيْلِ وَقِيلَ يَحْصُلُ بِسَاعَةٍ، وَنَحْوُهُ لِلنَّوَوِيِّ فِي الْأَذْكَارِ وَقِيلَ يَحْصُلُ بِصَلَاةِ الْعِشَاءِ وَالصُّبْحِ فِي جَمَاعَةٍ، وَقَرَّرَ شَيْخُنَا أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ وَاَلَّذِي قَبْلَهُ أَقْوَى الْأَقْوَالِ فَانْظُرْهُ.

 

وألف الإمام الحافظ أبو الخطاب بن دحية رسالة سماها (ما وضح واستبان في فضائل شهر شعبان) والمحدث عبد الله بن محمد بن الصديق الغماري له رسالة اسمها (حسن البيان في ليلة النصف من شعبان).

 

وقال الشافعي في الأم (وبلغنا أنه كان يقال إن الدعاء يستجاب في خمس ليال في ليلة الجمعة وليلة الأضحى وليلة الفطر وأول ليلة من رجب وليلة النصف من شعبان).

وقال الشافعي رحمه الله (وأخبرنا ابراهيم بن محمد قال رأيت مشيخة من خيار أهل المدينة يظهرون على مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ليلة العيدين فيدعون ويذكرون الله تعالى حتى تذهب ساعة من الليل).

 

وقال الشافعي (وبلغنا أن ابن عمر كان يحيي ليلة النحر).

وقال الشافعي (وأنا أستحب كل ما حكيت في هذه الليالي من غير أن تكون فرضا).

 

قال النووي في المجموع شرح المهذب بعد أن ذكر كلام الشافعي (واستحب الشافعي والأصحاب الإحياء المذكور مع أن الحديث ضعيف حديث من أحيا ليلتي العيد..إلخ، لـما سبق في أول الكتاب أن أحاديث الفضائل يتسامح فيها ويعمل على وفق ضعيفها). اهـ

 

وقال ابن حجر الهيتمي في الفتاوى الفقهية الكبرى عن ليلة النصف من شعبان (والحاصل أن لهذه الليلة فضلا وأنه يقع فيها مغفرة مخصوصة واستجابة مخصوصة ومن ثم قال الشافعي رضي الله عنه إن الدعاء يستجاب فيها). اهـ

 

وقال ابن نجيم من الحنفية في البحر الرائق (ومن المندوبات إحياء ليالي العشر من رمضان، وليلتي العيدين، وليالي عشر ذي الحجة، وليلة النصف من شعبان، كما وردت به الأحاديث). اهـ

 

وقال منصور البهوتى الحنبلى في كشاف القناع عن متن الإقناع (وفي استحباب قيامها) أي ليلة النصف من شعبان (ما في) إحياء (ليلة العيد هذا معنى كلام) عبد الرحمن بن أحمد (بن رجب) البغدادي ثم الدمشقي (في) كتابه المسمى (اللطائف) في الوظائف. اهـ

 

وقال الحافظ زين الدين ابن رجب البغدادي ثم الدمشقي الحنبلي في لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف (وأما صيام يوم النصف منه فغير منهي عنه فإنه من جملة أيام البيض الغر المندوب إلى صيامها من كل شهر وقد ورد الأمر بصيامه من شعبان بخصوصه). اهـ

 

وذكر ابن رجب أن ليلة النصف من شعبان كان التابعون من أهل الشام كخالد بن معدان ومكحول ولقمان بن عامر وغيرهم يعظمونها ويجتهدون فيها في العبادة وعنهم أخذ الناس فضلها وتعظيمها، ووافقهم على تعظيمها طائفة من عباد أهل البصرة وغيرهم. اهـ

 

وقال ابن رجب أيضا (فينبغي للمؤمن أن يتفرغ في تلك الليلة (ليلة النصف من شعبان) لذكر الله تعالى ودعائه بغفران الذنوب وستر العيوب وتفريج الكروب وأن يقدم على ذلك التوبة فإن الله تعالى يتوب فيها على من يتوب).

 

فقم ليلة النصف الشريف مصليا *** فأشرف هذا الشهر ليلة نصفه

فكم من فتى قد بات في النصف آمنا *** وقد نسخت فيه صحيفة حتفه

فبادر بفعل الخير قبل انقضائه *** وحاذر هجوم الموت فيه بصرفه

وصم يومها لله وأحسن رجاءه *** لتظفر عند الكرب منه بلطفه

 

ويتعين على المسلم أن يجتنب الذنوب التي تمنع من المغفرة وقبول الدعاء في تلك الليلة وقد روي أنها الشرك وقتل النفس والزنا وهذه الثلاثة أعظم الذنوب عند الله كما في حديث ابن مسعود المتفق على صحته. اهـ

 

وإلى أولئك المشوشين الذين يـحرمون إحياء ليلة النصف من شعبان بالصلاة والذكر والدعاء ولو فرادى (هذا زعيمكم الحراني ابن تيمية يقول وأما ليلة النصف من شعبان ففيها فضل وكان في السلف من يصلي فيها) نقله عنه صاحب كشاف القناع وغيره.

 

وفي مجموع الفتاوى لابن تيمية ج 23 ص131 ما نصه (سئل عن صلاة نصف شعبان)؟

فأجاب (إذا صلى الإنسان ليلة النصف وحده أو في جماعة خاصة كما كان يفعل طوائف من السلف فهو أحسن وأما الاجتماع في المساجد على صلاة مقدرة كالاجتماع على مائة ركعة بقراءة ألف (قل هو الله أحد)  دائما فهذا بدعة لم يستحبها أحد من الأئمة، والله أعلم). اهـ

 

ثم قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى ج 23 ص 131 (وأما ليلة النصف فقد روي في فضلها أحاديث وآثار ونقل عن طائفة من السلف أنهم كانوا يصلون فيها فصلاة الرجل فيها وحده قد تقدمه فيه سلف وله فيه حجة فلا ينكر مثل هذا، وأما الصلاة فيها جماعة فهذا مبني على قاعدة عامة في الاجتماع على الطاعات والعبادات فإنه نوعان أحدهما سنة راتبة إما واجب وإما مستحب كالصلوات الخمس والجمعة والعيدين، وصلاة الكسوف والاستسقاء والتراويح فهذا سنة راتبة ينبغي المحافظة عليها والمداومة، والثاني ما ليس بسنة راتبة مثل الاجتماع لصلاة تطوع مثل قيام الليل أو على قراءة قرآن أو ذكر الله أو دعاء، فهذا لا بأس به إذا لم يتخذ عادة راتبة). اهـ

 

وقال ابن تيمية في كتابه اقتضاء الصراط المستقيم (ليلة النصف من شعبان فقد روى في فضلها من الأحاديث المرفوعة والآثار ما يقتضي أنها ليلة مفضلة وأن من السلف من كان يخصها بالصلاة فيها). اهـ

 

قال الذهبي في تذكرة الحفاظ في ترجمة الحافظ أبي القاسم ابن عساكر (وقال المحدث بهاء الدين القاسم كان أبي رحمه الله مواظبا على الجماعة والتلاوة، يختم كل جمعة ويختم في رمضان كل يوم ويعتكف في المنارة الشرقية، وكان كثير النوافل والأذكار ويحيي ليلة النصف (أي من شعبان) والعيدين بالصلاة والذكر). اهـ

 

إحياء ليلة النصف من شعبان جماعة في المساجد:

ذكر الحافظ زين الدين ابن رجب البغدادي ثم الدمشقي الحنبلي في لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف أن بعض علماء السلف استحب إحياءها جماعة في المساجد، فقد كان خالد بن معدان ولقمان بن عامر وغيرهما يلبسون فيها أحسن ثيابهم ويتبخرون ويكتحلون ويقومون في المسجد ليلتهم تلك ووافقهم إسحاق بن راهويه على ذلك وقال في قيامها في المساجد جماعة ليس ببدعة، نقله عنه حرب الكرماني في مسائله. اهـ وذهب بعض السلف إلى أنه لا يسن تخصيص هذه الليلة بالاجتماع فيها في المساجد للصلاة والقصص والدعاء ولكن لا يكره أن يصلي الرجل فيها لخاصة نفسه. اهـ

قلنا: فمن أراد أن يعمل بالقول الأول فلا اعتراض عليه سيما في مثل هذا العصر الذي اشتدت فيه حاجة الناس إلى علم الدين فيغتنم العالم أو الواعظ اجتماع الناس لتذكيرهم بما ينفعهم في آخرتهم، وهذا يدل على أن الذين يضللون ويحرمون إحياءها في المساجد لم يوافقوا أحد القولين وشذوا عما كان عليه السلف الصالح.

 

فائدة :

 

قال النووي في المجموع (الصلاة المعروفة بصلاة الرغائب وهي ثنتى عشرة ركعة تصلى بين المغرب والعشاء ليلة أول جمعة في رجب وصلاة ليلة نصف شعبان مائة ركعة وهاتان الصلاتان بدعتان ومنكران قبيحتان ولا يغتر بذكرهما في كتاب قوت القلوب وإحياء علوم الدين ولا بالحديث المذكور فيهما فإن كل ذلك باطل ولا يغتر ببعض من اشتبه عليه حكمهما من الأئمة فصنف ورقات في استحبابهما فإنه غالط في ذلك وقد صنف الشيخ الإمام أبو محمد عبد الرحمن بن اسماعيل المقدسي كتابا نفيسا في إبطالهما فأحسن فيه وأجاد رحمه الله). اهـ

 

وفي المدخل لأبي عبد الله محمد بن محمد بن محمد العبدري الفاسي المالكي الشهير بابن الحاج (المتوفى 737 هـ) فصل من العوائد الرديئة ما يفعله النساء في المواسم المرتبة الثانية المواسم التي ينسبونها إلى الشرع وليست منه من البدع المحدثة صلاة الرغائب في الجمعة الأولي من رجب (مِنْ البدع المحدثة صَلَاة الرغائب فِي الْجُمُعَةَ الأولي مِنْ رجب) وَمِنْ الْبِدَعِ الَّتِي أَحْدَثُوهَا فِي هَذَا الشَّهْرِ الْكَرِيمِ أَنَّ أَوَّلَ لَيْلَةِ جُمُعَةٍ مِنْهُ يُصَلُّونَ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ فِي الْجَوَامِعِ، وَالْمَسَاجِدِ صَلَاةَ الرَّغَائِبِ، وَيَجْتَمِعُونَ فِي بَعْضِ جَوَامِعِ الْأَمْصَارِ وَمَسَاجِدِهَا وَيَفْعَلُونَ هَذِهِ الْبِدْعَةَ وَيُظْهِرُونَهَا فِي مَسَاجِدِ الْجَمَاعَاتِ بِإِمَامٍ وَجَمَاعَةٍ كَأَنَّهَا صَلَاةٌ مَشْرُوعَةٌ…..إلخ.

 

وقال فصل من العوائد الرديئة ما يفعله النساء في المواسم المرتبة الثانية المواسم التي ينسبونها إلى الشرع وليست منه فصل من البدع المحدثة في ليلة النصف شعبان (وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى صَلَاةِ الرَّغَائِبِ فِي أَوَّلِ لَيْلَةِ جُمُعَةٍ مِنْ رَجَبٍ، وَصَلَاةُ لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ تَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ لِمَا فِيهَا مِمَّا لَا يَنْبَغِي، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ فِعْلَ صَلَاةِ الرَّغَائِبِ فِي جَمَاعَةٍ بِدْعَةٌ، وَلَوْ صَلَّاهَا إنْسَانٌ وَحْدَهُ سِرًّا لَجَازَ ذَلِكَ، وَمَذْهَبُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى كَرَاهِيَةُ ذَلِكَ لِقَاعِدَةِ مَذْهَبِهِ فِي كَرَاهِيَتِهِ تَكْرَارِ السُّورَةِ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ لِاتِّبَاعِ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ…إلخ)