إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد:
شرح صِفَة الْبَقَاء للهِ تعالى
يَجِبُ الْبَقَاءُ لِلَّهِ تَعَالَى بِمَعْنَى أَنَّهُ لا يَلْحَقُهُ فَنَاءٌ، لِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ وُجُوبُ قِدَمِهِ تَعَالَى عَقْلًا وَجَبَ لَهُ الْبَقَاءُ، لِأَنَّهُ لَوْ أَمْكَنَ أَنْ يَلْحَقَهُ الْعَدَمُ لَانْتَفَى عَنْهُ الْقِدَمُ، فَهُوَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى الْبَاقِي لِذَاتِهِ لا بَاقِيَ لِذَاتِهِ غَيْرُهُ، وَأَمَّا الْجَنَّةُ وَالنَّارُ فَبَقَاؤُهُمَا لَيْسَ بِالذَّاتِ بَلْ لِأَنَّ اللَّهَ شَاءَ لَهُمَا الْبَقَاءَ، فَالْجَنَّةُ بِاعْتِبَارِ ذَاتِهَا يَجُوزُ عَلَيْهَا الْفَنَاءُ وَكَذَلِكَ النَّارُ بِاعْتِبَارِ ذَاتِهَا يَجُوزُ عَلَيْهَا الْفَنَاءُ.
وَالْبُرْهَانُ الْعَقْلِيُّ عَلَى وُجُوبِ الْبَقَاءِ لِلَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ جَازَ عَلَيْهِ الْعَدَمُ لَكَانَ يَجُوزُ عَلَيْهِ مَا يَجُوزُ عَلَى الْحَوَادِثِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ حَادِثٌ، فَلَمَّا ثَبَتَ فِي الْعَقْلِ وُجُوبُ الْقِدَمِ لِلَّهِ وَجَبَ الْبَقَاءُ لَهُ وَاسْتَحَالَ عَلَيْهِ الْفَنَاءُ، وَالدَّلِيلُ مِنَ الْمَنْقُولِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى ﴿وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ﴾ [سُورَةَ الرَّحْمٰنِ 27] أَيْ ذَاتُ رَبِّكَ.
وَالْبَقَاءُ الَّذِي هُوَ وَاجِبٌ لِلَّهِ هُوَ الْبَقَاءُ الذَّاتِيُّ أي لَيْسَ بِإِيْجَابِ شَىْءٍ غَيْرِهِ لَهُ بَلْ هُوَ يَسْتَحِقُّهُ لِذَاتِهِ لا لِشَىْءٍ ءَاخَرَ، وَلا يَكُونُ لِشَىْءٍ سِوَاهُ هَذَا الْبَقَاءُ الذَّاتِيُّ، إِنَّمَا الْبَقَاءُ الَّذِي يَكُونُ لِبَعْضِ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى كَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ الثَابِتُ بِالإِجْمَاعِ فَهُوَ لَيْسَ بَقَاءً ذَاتِيًّا لِأَنَّ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ حَادِثَتَانِ وَالْحَادِثُ لا يَكُونُ بَاقِيًا لِذَاتِهِ، فَبَقَاءُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ لَيْسَ بِذَاتَيْهِمَا بَلْ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَاءَ لَهُمَا الْبَقَاءَ، فَالْجَنَّةُ بِإِعْتِبَارِ ذَاتِهَا وَالنَّارُ بِإِعْتِبَارِ ذَاتِهَا يَجُوزُ عَلَيْهِمَا الْفَنَاءُ عَقْلًا لِكَوْنِهِمَا حَادِثَتَيْنِ.