إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد:
قالَ اللهُ تَعَالَى (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ۖ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا ۗ وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) (سورة البقرة آية 219).
قال ابنُ الجَوزيّ في تَفسِيرِه عندَ قَولِه تَعالى (قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا) مَا نَصُّه (وفي إثْم الميْسِر قَولانِ أحَدُهما أنّه يَشغَلُ عن ذِكْرِ اللهِ وعن الصّلاةِ ويُوقِعُ العَدَاوةَ قَالَهُ ابنُ عبّاس، والثاني يَدعُو إلى الظُلْم ومَنعِ الحَقِّ) رواهُ السُّدّيُ عن أشْيَاخِه، وجَائزٌ أن يُرادَ جمِيعُ ذلكَ.
وأمّا مَنَافِعُ الخَمرِ فمِنْ وَجْهَين أحَدُهما الرِّبحُ في بَيعِها والثّاني انتفَاعُ الأبْدَانِ مع الْتِذَاذِ والنّفُوس، وأمّا مَنَافِعُ الْمَيسِر فإصَابةُ الرجُلِ المالَ مِن غَيرِ تَعَب.
وفي قولِه تَعالى (وإثْمُهمَا أكبَرُ مِن نَفعِهِمَا) قَولانِ أحَدُهُما أنّ مَعنَاهُ وإثمُهُما بَعدَ التّحريم أكْبرُ مِن نَفعهمَا قَبلَ التّحريم قالَهُ سَعِيدُ بنُ جُبَير والضّحّاكُ ومُقَاتِل، والثّاني وإثمُهُما قَبلَ التّحريم أكبرُ مِن نَفعِهما قَبلَ التّحريم أيضًا، لأنّ الإثمَ الذي يَحدُث مِن أَسبَابِهما أَكبَرُ مِن نَفعِهِما، وهَذا مَنقُولٌ عن ابنِ جُبَير أيضًا.
فَصْلٌ:
اخْتَلَف العُلَماءُ هل لهذه الآيةِ تَأثِيرٌ في تَحريم الخَمر أم لا على قَولَين أحَدُهما أنّها تَقتَضِي ذَمَّها دُونَ تَحريمها، رَواه السُّدّيُ عن أشيَاخِه وبهِ قالَ سَعِيدُ بنُ جُبَير ومجَاهد وقَتادَةُ ومُقَاتل، وعلى هَذا تَكونُ هَذه الآيةُ مَنسُوخَةً، والقَولُ الثاني أنّ لها تَأثيرًا في التّحريم وهو أنّ اللهَ تَعالى أَخبَر أنّ فِيها إثْما كَبِيرًا والإثمُ كلُّهُ مُحرَّم بقولِه (والإثْمَ والبَغْيَ) هَذا قَولُ جمَاعَةٍ مِنَ العُلَماءِ وحَكَاهُ الزّجَّاج، (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ) سورة الأعراف 34، واحْتَجَّ لصِحّةِ هَذا القَولِ بَعضُ أهلِ المعَاني فقالَ لما قالَ اللهُ تَعالى (قُل فِيهِمَا إثمٌ كَبِيرٌ ومَنافِعُ للنّاسِ)، وقَعَ التَّسَاوِي بَينَ الأمرَين فلَمّا قَال (وإثْمُهُما أَكبَرُ مِن نَفعِهِما) صَارَ الغَالِبُ الإثمَ وبَقِيَ النّفْعُ مُستَغرِقًا في جَنْبِ الإثْم فعَادَ الحكمُ للغَالِب المستَغرِقِ فغُلّبَ جَانِبُ الخَطَر. اهـ
قال الماوَرديّ في تَفسِيره ما نَصّه (واختَلَفُوا في هذه الآيةِ هَل كانَ تَحريمُ الخَمر بها أو بغَيرها فقالَ قَومٌ مِن أَهلِ النّظَر حُرّمَت الخمرُ بهذه الآيةِ، وقالَ قتَادَةُ وعلَيهِ أَكثَرُ العلَماءِ إنّها حُرِّمَت بآيةِ المائدَة).