إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد:
سُورَةُ الْمُطَفِّفِينَ وَهِيَ مَكِّيَّةٌ وَقِيلَ مَدَنِيَّةٌ وَءَايَاتُهَا سِتٌّ وَثَلاثُون
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيم
وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6) كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَّرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ ءَايَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ (13) كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17) كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَّرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ(26)وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28) إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُواْ فَكِهِينَ(31)وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ ءامَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36).
قَالَ الْحَافِظُ فِي الْفَتْحِ (أَخْرَجَ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ الْمَدِينَةَ كَانُوا مِنْ أَخْبَثِ النَّاسِ كَيْلًا فَأَنْزَلَ اللَّهُ ﴿وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ﴾ فَأَحْسَنُوا الْكَيْلَ بَعْدَ ذَلِكَ). اهـ
﴿وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ﴾ قَالَ الرَّاغِبُ فِي الْمُفْرَدَاتِ قَالَ الأَصْمَعِيُّ ﴿وَيْلٌ﴾ قُبْحٌ، وَمَنْ قَالَ وَيْلٌ وَادٍ فِي جَهَنَّمَ فَإِنَّهُ لَمْ يُرِدْ أَنَّ وَيْلًا فِي اللُّغَةِ هُوَ مَوْضُوعٌ لِهَذَا وَإِنَّمَا أَرَادَ مَنْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ فِيهِ فَقَدْ اسْتَحَقَّ مَقَرًّا مِنَ النَّارِ وَثَبَتَ ذَلِكَ لَهُ. اهـ وَفِي الْحَدِيثِ (الْوَيْلُ وَادٍ فِي جَهَنَّمَ يَهْوِي فِيهِ الْكَافِرُ أَرْبَعِينَ خَرِيفًا قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ قَعْرَهُ) أخرجه التّرمذي وقال هذا حديث غريب لا نعرفه مرفوعا إلا من حديث ابن لهيعة. اهـ وهو ضعيف مطلقا حتّى قبل أن تحترق كتبه كما قال عبد الرّحمـٰن بن مهدي ويحيى بن معين، قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ الْمُطَفِّفُ مَأْخُوذٌ مِنَ الطَّفِيفِ وَهُوَ الْقَلِيلُ، فَالْمُطَفِّفُ هُوَ الْمُقِلُّ حَقَّ صَاحِبِهِ بِنُقْصَانِهِ عَنِ الْحَقِّ، فَالْمُطَفِّفُونَ هُمُ الَّذِينَ يَبْخَسُونَ حُقُوقَ النَّاسِ فِي الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ.
﴿الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ﴾ أَيْ أَنَّ هَؤُلاءِ الْمُطَفِّفِينَ إِذَا اكْتَالُوا مِنَ النَّاسِ حُقُوقَهُمْ يَأْخُذُونَهَا وَافِيَةً.
﴿وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ﴾ أَيْ أَنَّ هَذَا مِنْ صِفَةِ الْمُطَفِّفِينَ أَنَّهُمْ إِذَا كَالُوا لِلنَّاسِ أَوْ وَزَنُوا لَهُمْ يُنْقِصُونَ لَهُمْ فِي الْكَيْلِ أَوِ الْوَزْنِ.
﴿أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ﴾ قَالَ النَّسَفِيُّ: أَدْخَلَ هَمْزَةَ الِاسْتِفْهَامِ عَلَى (لا) النَّافِيَةِ تَوْبِيخًا، وَفِيهِ إِنْكَارٌ وَتَعْجِيبٌ عَظِيمٌ مِنْ حَالِهِمْ فِي الِاجْتِرَاءِ عَلَى التَّطْفِيفِ كَأَنَّهُمْ لا يَخْطُرُ بِبَالِهِمْ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ وَمُحَاسَبُونَ عَلَى مَا يُنْقِصُونَهُ فِي الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ وَالظَّنُّ هَا هُنَا بِمَعْنَى الْعِلْمِ وَالْيَقِينِ.
﴿لِيَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ شَأَنُهُ، أَلا وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ.
﴿يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ فَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَقُومُ النَّاسُ مِنْ قُبُورِهِمْ لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَجَزَائِهِ، نَسْأَلُ اللَّهَ الْمُسَامَحَةَ وَالسَّتْرَ فَضْلًا مِنْهُ تَعَالَى وَكَرَمًا، رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال ﴿يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ حَتَّى يَغِيبَ أَحَدُهُمْ فِي رَشْحِهِ إِلَى أَنْصَافِ أُذُنَيْهِ اهـ. وَالرَّشْحُ الْعَرَقُ.
﴿كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ﴾ فَكَلِمَةُ ﴿كَلَّا﴾ فِي هَذِهِ الآيَةِ كَلِمَةُ رَدْعٍ وَزَجْرٍ لَهُمْ عَمَّا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ التَّطْفِيفِ، وَقِيلَ بِمَعْنَى حَقًّا، وَكِتَابُ الْفُجَّارِ أَيْ صَحَائِفُ أَعْمَالِهِمْ فِي سِجِّينٍ، قَالَ الزَّبِيدِيُّ فِي تَاجِ الْعَرُوسِ مَعَ الأَصْلِ (وَسِجِّينٌ فِيهِ كِتَابُ الْفُجَّارِ)، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا وَدَوَاوِينُهُمْ كَمَا فِي الصَّحَاحِ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَة وَهُوَ فِعِّيلٌ مِنَ (السِّجْن) كَالفِسِّيقِ مِنَ (الْفِسْقِ)، وَقِيلَ وَادٍ فِي جَهَنَّمَ، أَعَاذَنَا اللَّهُ تَعَالَى مِنْهَا، وجزم البيضاوى في تفسير سورة هود أنه جَهَنّم نفسها، وقال ابن الأثير هو اسم علم للنّار، وقال الرّاغب هو اسم لجهنّم بإزاء عليّين. اهـ
﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ﴾ هَذَا تَعْظِيمٌ لِأَمْرِ سِجِّينٍ تَخْوِيفًا مِنْهَا.
﴿كِتَابٌ مَّرْقُومٌ﴾ أَيْ مَكْتُوبٌ، وَقِيلَ مَخْتُومٌ، قَالَ النَّسَفِيُّ هُوَ كِتَابٌ جَامِعٌ هُوَ دِيوَانُ الشَّرِّ كُتِبَتْ فِيهِ أَعْمَالُ الشَّيَاطِينِ وَالْكَفَرَةِ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ، وَفِي ذَلِكَ دِلالَةٌ عَلَى خَسَاسَةِ مَنْزِلَةِ الْكُفَّارِ وَخُبْثِ أَعْمَالِهِمْ وَتَحْقِيرِ اللَّهِ إِيَّاهَا لِأَنَّ هَذَا الْكِتَابَ فِي حَبْسٍ كَمَا تَقَدَّمَ، قَالَ الرَّازِيُّ قَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ كِتَابِ الْفُجَّارِ بِأَنَّهُ فِي سِجِّينٍ ثُمَّ فَسَرَّ سِجِّينًا بِكِتَابٍ مَرْقُومٍ فَكَأَنَّهُ قِيلَ إِنَّ كِتَابَهُمْ فِي كِتَابٍ مَرْقُومٍ فَمَا مَعْنَاهُ؟ أَجَابَ الإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ الشَّاشِيُّ الْقَفَّالُ الْكَبِيرُ فَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ (قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿كِتَابٌ مَّرْقُومٌ﴾ لَيْسَ تَفْسِيرًا لِسِجِّينٍ بَلِ التَّقْدِيرُ كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ وَإِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ كِتَابٌ مَرْقُومٌ، فَيَكُونُ هَذَا وَصْفًا لِكِتَابِ الْفُجَّارِ بِوَصْفَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ فِي سِجِّينٍ، وَالثَّانِي أَنَّهُ مَرْقُومٌ، وَوَقَعَ قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ﴾ فِيمَا بَيْنَ الْوَصْفَيْنِ مُعْتَرِضًا وَاللَّهُ أَعْلَم). اهـ
﴿وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ﴾ أَيْ أَنَّ الْمُكَذِّبِينَ بِيَوْمِ الْحِسَابِ سَيَلْقَوْنَ فِيهِ شِدَّةَ الْعَذَابِ.
﴿وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ﴾ أَيْ أَنَّهُ لا يُكَذِّبُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَيْ مُتَجَاوِزٍ لِلْحَدِّ، أَثِيمٍ أَيْ كَثِيرِ الإِثْمِ بِكُفْرِهِ، وَهَذِهِ صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ.
﴿إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ ءَايَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ﴾ أَيْ قَالَ هَذَا الْمُكَذِّبُ هَذِهِ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ أَيْ أَحَادِيثُ الْمُتَقَدِّمِينَ، قَالَ الزَّجَّاجُ أَسَاطِيرُ أَبَاطِيل.
﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ أَيْ لَيْسَ هُوَ أَسَاطِيرَ الأَوَّلِينَ، ﴿بَلْ رَانَ﴾ قَالَ الْبُخَارِيُّ قَالَ مُجَاهِدٌ رَانَ ثَبْتُ الْخَطَايَا، وَقَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ وَرَوْينَا فِي فَوَائِدِ الدِّيبَاجِيِّ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ ﴿بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم﴾ قَالَ ثَبَتَتْ عَلَى قُلُوبِهِمُ الْخَطَايَا حَتَّى غَمَرَتْهَا. انْتَهَى وَالرَّانُ وَالرَّيْنُ الْغِشَاوَةُ، وَهُوَ كَالصَّدَىءِ عَلَى الشَّىْءِ الصَّقِيلِ، وَرَوَى ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ الْقَعْقَاعِ بنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَخْطأَ خَطِيئَةً نُكِتَتْ فِي قَلْبِهِ فَإِذَا هُوَ نَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ صُقِلَتْ، فَإِنْ هُوَ عَادَ زِيدَ فِيهَا حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ فَهُوَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم﴾) انْتَهَى كَلامُ الْحَافِظِ، وَذَكَرَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مُسْنَدًا قَالَ (كَانُوا يَرَوْنَ الرَّيْنَ هُوَ الطَّبْعُ). اهـ وَقَوْلُهُ تَعَالَى ﴿مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ أَيْ مِنَ الْمَعَاصِي وَالذُّنُوبِ، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ لَمَّا كَثُرَتْ مَعَاصِيهِمْ وَذُنُوبُهُمْ أَحَاطَتْ بِقُلُوبِهِمْ، وَقَدْ رَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ هُوَ الذَّنْبُ عَلَى الذَّنْبِ حَتَّى يَرِينَ عَلَى الْقَلْبِ فَيَسْوَدَّ.
فَائِدَةٌ نَفِيسَةٌ: قَالَ الْمُنْذِرِيُّ وَرُوِيَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (إِنَّ لِلْقُلُوبِ صَدَأً كَصَدَإِ النُّحَاسِ وَجَلاؤُهَا الِاسْتِغْفَارُ) رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ.
فَائِدَةٌ: حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ يَسْكُتُ عَلَى اللَّامِ مِنْ ﴿بَلْ﴾ سَكْتَةً لَطِيفَةً مِنْ دُونِ تَنَفُّسٍ مَعَ مُرَادِ الْوَصْلِ ثُمَّ يَقُولُ ﴿رَانَ﴾ أَيْ بِإِظْهَارِ اللَّامِ وَفَتْحِ الرَّاءِ.
﴿كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ﴾، ﴿كَلَّا﴾ هُنَا فِيهَا مَعْنَى الرَّدْعِ عَنِ الْكَسْبِ الرَّائِنِ عَلَى الْقَلْبِ أَلا وَهُوَ الذُّنُوبُ وَالْمَعَاصِي ﴿إنَّهُم﴾ أَيِ الْكُفَّار ﴿عَنْ رَّبِّهِمْ﴾ أَيْ عَنْ رُؤْيَةِ رَبِّهِمْ، وَهُوَ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ كَمَا قَالَ عِزُّ الدِّينِ بنُ عَبْدُ السَّلامِ فِي كِتَابِ الإِشَارَةِ إِلَى الإِيجَازِ، وَقَوْلُهُ ﴿يَوْمَئِذٍ﴾ أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقَوْلُهُ ﴿لَّمَحْجُوبُونَ﴾ مَعْنَاهُ لَمَمْنُوعُونَ، وَالْحَجْبُ الْمَنْعُ، قَالَهُ النَّسَفِيُّ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا إِهَانَةُ الْكُفَّارِ وَإِظْهَارُ سَخَطِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ رَوَى الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِ إِلَى الإِمَامِ الْمُطَّلِبِيِّ مُحَمَّدِ بنِ إِدْرِيسَ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الآيَةِ ﴿كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ﴾ (فَلَمَّا حَجَبَهُمْ فِي السُّخْطِ كَانَ فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ يَرَوْنَهُ فِي الرِّضَا). اهـ، وَهُوَ كَلامٌ فِي غَايَةِ الْحُسْنِ لِأَنَّهُ اسْتِدْلالٌ بِمَفْهُومِ هَذِهِ الآيَةِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مَنْطُوقُ قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ (سُورَةَ الْقِيَامَةِ)، وَفِي السِّيَرِ بِإِسْنَادِهِ عَنْ سُفْيَانَ بنِ عُيَيْنَةَ أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ﴾ فَإِذَا احْتَجَبَ عَنِ الأَوْلِيَاءِ وَالأَعْدَاءِ فَأَيُّ فَضْلٍ لِلأَوْلِيَاءِ عَلَى الأَعْدَاءِ، وَفِيهِ أَنَّ شَخْصًا قَالَ لِلإِمَامِ مَالِكِ بنِ أَنَسٍ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ (سُورَةَ الْقِيَامَة) يَنْظُرُونَ إِلَى اللَّهِ؟ قَالَ نَعَمْ بِأَعْيُنِهِمْ هَاتَيْنِ قُلْتُ فَإِنَّ قَوْمًا يَقُولُونَ نَاظِرَةً بِمَعْنَى مُنْتَظِرَةٍ إِلَى الثَّوَابِ، قَالَ مَالِكٌ بَلْ تَنْظُرُ إِلَى اللَّهِ، أَمَا سَمِعْتَ قَوْلَ مُوسَى ﴿رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ﴾ (سُورَةَ الأَعْرَاف) أَتَرَاهُ سَأَلَ مُحَالًا؟ قَالَ اللَّهُ ﴿لَنْ تَرَانِي﴾ فِي الدُّنْيَا لِأَنَّهَا دَارُ فَنَاءٍ فَإِذَا صَارُوا إِلَى دَارِ الْبَقَاءِ نَظَرُوا بِمَا يَبْقَى إِلَى مَا يَبْقَى، قَالَ تَعَالَى ﴿كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ﴾. اهـ
فَائِدَةٌ:
اعْلَمْ أَرْشَدَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ أَنَّهُ انْعَقَدَ إِجْمَاعُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ عَلَى الإِيـمَانِ بِالرُّؤْيَةِ للهِ تَعَالَى بِالْعَيْنِ فِي الآخِرَةِ وَأَنَّهُ حَقٌّ وَأَنَّهُ خَاصٌّ بِالْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَهُ وَهُمْ فِي الْجَنَّةِ بِلا كَيْفٍ وَلا تَشْبِيهٍ وَلا جِهَةٍ، قَالَ الإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ النُّعْمَان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (وَلِقَاءُ اللَّهِ تَعَالَى لِأَهْلِ الْجَنَّةِ حَقٌّ بِلا كَيْفِيَّةٍ وَلا تَشْبِيهٍ وَلا جِهَةٍ يَرَاهُ الْمُؤْمِنُونَ وَهُمْ فِي الْجَنَّةِ بِأَعْيُنِ رُءُوسِهِمْ وَلا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ مَسَافَةٌ، وَلَيْسَ قُرْبُ اللَّهِ تَعَالَى وَلا بُعْدُهُ مِنْ طَرِيقِ طُولِ الْمَسَافَةِ وَقِصَرِهَا وَلَكِنْ عَلَى مَعْنَى الْكَرَامَةِ وَالْهَوَانِ، وَالْمُطِيعُ قَرِيبٌ مِنْهُ تَعَالَى بِلا كَيْفٍ، وَالْعَاصِي بَعِيدٌ مِنْهُ بِلا كَيْفٍ، وَكَذَلِكَ الرُّؤْيَةُ فِي الآخِرَةِ بِلا كَيْفٍ). اهـ
وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لا يَكُونُ فِي جِهَةٍ وَلا مَكَانٍ إِنَّمَا أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي مَكَانِهِمْ فِي الْجَنَّةِ يَرَوْنَهُ تَعَالَى رُؤْيَةً لا يَكُونُ عَلَيْهِمْ فِيهَا اشْتِبَاهٌ فَلا يَشُكُّونَ هَلِ الَّذِي رَأَوْهُ هُوَ اللَّهُ أَمْ غَيْرُهُ كَمَا لا يَشُكُّ مُبْصِرُ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لَيْسَ دُونَهُ سَحَابٌ أَنَّ الَّذِي رَءَاهُ هُوَ الْقَمَرُ، وَفِي ذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا تَرَوْنَ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لا تُضَامُّونَ فِي رُؤْيَتِهِ) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
قال البيهقيّ (سمعت الشيخ الإمام أبا الطيب سهل بن محمد الصعلوكي يقول في إملائه في قوله (لا تُضامّون في رؤيته) بالضمّ والتشديد، ومعناه لا تجتمعون لرؤيته في جهة ولا يضمّ بعضكم إلى بعض، ومعناه بفتح التاء كذلك والأصل لا تتضامُّون في رؤيته باجتماع في جهة، وبالتخفيف (أي تُضامون) من الضّيم ومعناه لا تُظلَمون فيه برؤية بعضكم دون بعض فإنكم ترونه وأنتم في جهاتكم كلها وهو متعال عن الجهة، والتشبيه برؤية القمر للرؤية دون تشبيه المرئي (وهو الله) تعالى الله عن ذلك). اهـ
فَالرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَبَّهَ رُؤْيَةَ الْمُؤْمِنِينَ للهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ حَيْثُ عَدَمُ الشَّكِّ بِرُؤْيَةِ الْقَمَرِ وَلَمْ يُشَبِّهِ اللَّهَ تَعَالَى بِالْقَمَرِ كَمَا يَزْعُمُ بَعْضُ الْجُهَّالِ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ لَهُمْ هَذَا الْحَدِيثُ يَتَوَهَّمُونَ أَنَّ اللَّهَ يُشْبِهُ الْقَمَرَ.
وَلْيُعْلَمْ أَنَنَا قَدْ أَطَلْنَا فِي هَذَا الْبَحْثِ رَدًّا عَلَى الْقَدَرِيَّةِ الَّذِينَ وَصَفَهُمُ الرَّسُولُ بِأَنَّهُمْ مَجُوسُ هَذِهِ الأُمَّةِ وَالَّذِينَ يُنْكِرُونَ رُؤْيَةَ الْمُؤْمِنِينَ للهِ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى مَا أَنْعَمَ، وَلا يَفُوتُنَا أَنْ نُحَذِّرَ مِنْ تَفْسِيرِ الزَّمَخْشَرِيِّ الْمُتَضَمِّنِ سُوءَ الأَدَبِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا ذَكَرَهُ الإِمَامُ أَبُو حَيَّانَ الأَنْدَلُسِيُّ فِي كِتَابِهِ الْبَحْرِ الْمُحِيطِ حَيْثُ يَجِبُ التَّنْبِيهُ عَلَى مَا فِيهِ مِنَ الْقَبَائِحِ، وَفِيهِ يَقُولُ أَبُو حَيَّانَ الإِمَامُ الْعَلَمُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ النَّمْلِ مِنَ الْبَحْرِ الْمُحِيطِ ضِمْنَ أَبْيَاتٍ فِي التَّحْذِيرِ مِنْ تَفْسِيرِ الزَّمَخْشَرِيِّ:
فَيُثْبِتُ مَوْضُوعَ الأَحَادِيثِ جَاهِلً ** وَيَعْزُو إِلَى الْمَعْصُومِ مَا لَيْسَ لائِقًا
وَيَحْتَالُ لِلأَلْفَاظِ حَتَّى يُدِيرَهَا ** لِمَذْهَبِ سُوءٍ فِيهِ أَصْبَحَ مَارِقًا
لَئِنْ لَمْ تَدَارَكْهُ مِنَ اللَّهِ رَحْمَةٌ ** لَسَوْفَ يُرَى لِلْكَافِرِينَ مُرَافِقًا
وَيَعْنِي أَبُو حَيَّانَ بِمَذْهَبِ السُّوءِ مَذْهَبَ الْمُعْتَزِلَةِ حَيْثُ إِنَّ الزَّمَخْشَرِيَّ كَانَ مُعْتَزِلِيًّا يُبَاهِي بِبِدْعَتِهِ وَيَدْعُو إِلَيْهَا.
نَسْأَلُ اللَّهَ السَّلامَةَ وَالْعَافِيَةَ وَالْمَوْتَ عَلَى السُّنَّةِ، وَالْعَجَبُ مِنْ بَعْضِ الْمُنْتَسِبِينَ إِلَى السُّنَّةِ يَشْتَغِلُونَ بِتَفْسِيرِهِ مَعَ مَا عُلِمَ مِنْ وُجُوبِ التَّحْذِيرِ مِنْهُ.
وَنَعُودُ إِلَى مَا كُنَّا بِصَدَدِهِ إِذْ أَطَلْنَا لِلْحَاجَةِ الْمَاسَّةِ، فَنَقُولُ قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ﴾ أَيْ أَنَّهُمْ بَعْدَ حَجْبِهِمْ عَنِ اللَّهِ يَدْخُلُونَ النَّارَ الْمُحْرِقَةَ.
﴿ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ﴾ فَقَوْلُهُ تَعَالَى﴿ثُمَّ﴾ أَيْ أَنَّ خَزَنَةَ النَّارِ يَقُولُونَ لِلْكُفَّارِ هَذَا أَيِ الْعَذَابُ ﴿الَّذِي كُنْتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ﴾ أَيْ فِي الدُّنْيَا.
﴿كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ﴾ قَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ (اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ حَالَ الْفُجَّارِ الْمُطَفِّفِينَ أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ حَالِ الأَبْرَارِ الَّذِينَ لا يُطَفِّفُونَ فَقَالَ ﴿كَلَّا﴾ أَيْ لَيْسَ الأَمْرُ كَمَا تَوَهَّمَهُ أُولَئِكَ الْفُجَّارُ مِنْ إِنْكَارِ الْبَعْثِ وَمِنْ أَنَّ كِتَابَ اللَّهِ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ). اهـ ثُمَّ أَعْلَمَ اللَّهُ تَعَالَى أَيْنَ مَحَلُّ كِتَابِ الأَبْرَارِ فَقَالَ ﴿إنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ﴾ أَيْ مَا كُتِبَ مِنْ أَعْمَالِهِمْ ﴿لَفِي عِلّيِّينَ﴾ لَفِي عِلّيِّينَ أَيْ فِي الْجَنَّةِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقِيلَ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ وَفِيهَا أَرْوَاحُ الْمُؤْمِنِينَ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ.
﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ﴾ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ (أَيْ مَا الَّذِي أَعْلَمَكَ يَا مُحَمَّدُ أَيُّ شَىْءٍ عِلِّيُّونَ؟ عَلَى جِهَةِ التَّفْخِيمِ وَالتَّعْظِيمِ لَهُ فِي الْمَنْزِلَةِ الرَّفِيعَةِ). اهـ
﴿كِتَابٌ مَّرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ﴾ أَيْ مَخْتُومٌ، فَكِتَابُ الأَبْرَارِ لا يُنْسَى وَلا يُمْحَى، وَقَوْلُهُ ﴿يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ﴾ أَيْ أَنَّ الْمَلائِكَةَ الْمُقَرَّبِينَ مِنْ كُلِّ سَمَاءٍ يَحْضُرُونَ ذَلِكَ الْكِتَابَ إِذَا صُعِدَ بِهِ إِلَى عِلِّيِّينَ كَرَامَةً لِلْمُؤْمِنِ.
﴿إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ﴾ أَيْ أَنَّ أَهْلَ الطَّاعَةِ وَالصِّدْقِ فِي الْجَنَّةِ يَتَنَعَّمُونَ.
﴿عَلَى الأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ﴾ قَالَ السَّمِينُ الْحَلَبِيُّ قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿عَلَى الأَرَائِكِ﴾ هُوَ جَمْعُ أَرِيكَةٍ وَالأَرِيكَةُ كُلُّ مَا اتُّكِئَ عَلَيْهِ. اهـ وَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَى مَا أُعْطُوا مِنَ النَّعِيمِ، قَالَ الْقُشَيْرِيُّ أَثْبَتَ النَّظَرَ وَلَمْ يُبَيِّنِ الْمَنْظُورَ إِلَيْهِ لِاخْتِلافِهِمْ فِي أَحْوَالِهِمْ.
﴿تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ﴾ قاَلَ الْفَرَّاءُ النَّضْرَةُ بَرِيقُ النَّعِيمِ وَنَدَاهُ، وَالْمَعْنَى أَنَّكَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ عَرَفْتَ أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ النَّعِيمِ لِمَا تَرَى عَلَيْهِمْ مِنَ الْحُسْنِ وَالنُّورِ.
﴿يُسْقَوْنَ مِنْ رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ﴾ أَيْ أَنَّ أَهْلَ النَّعِيمِ يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ، أَيْ خَمْرٍ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ، وَهِيَ مِنَ الْخَمْرِ أَصْفَاهُ وَأَجْوَدُهُ، قَالَهُ الْخَلِيلُ، وَقَالَ الْحَسَنُ الرَّحِيقُ عَيْنٌ فِي الْجَنَّةِ مَشُوبَةٌ بِالْمِسْكِ، وَقِيلَ الشَّرَابُ الَّذِي لا غَشَّ فِيهِ، ﴿مَّخْتُومٍ﴾ أَيْ عَلَى إِنَائِهِ ﴿خِتَامُهُ مِسْكٌ﴾ وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ خَاتَمُهُ بِخَاءٍ مَفْتُوحَةٍ بَعْدَهَا أَلِفٌ وَبَعْدَهَا تَاءٌ مَفْتُوحَةٌ وَالْمَعْنَى أَنَّ الْخَتْمَ الَّذِي يُخْتَمُ بِهِ الإِنَاءُ مِسْكٌ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَرَأَ أُبَيُّ بنُ كَعْبٍ وَعُرْوَةُ وَأَبُو الْعَالِيَةِ خَتَمُهُ بِفَتْحِ الْخَاءِ وَالتَّاءِ وَبِضَمِّ الْمِيمِ مِنْ غَيْرِ أَلِفٍ.
﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾ أَيْ فِيمَا وُصِفَ مِنْ أَمْرِ الْجَنَّةِ وَالنَّعِيمِ فَلْيَرْغَبِ الرَّاغِبُونَ بِالْمُبَادَرَةِ إِلَى طَاعَةِ اللَّهِ.
﴿وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ﴾ أَيْ أَنَّ مَا يُمْزَجُ بِهِ ذَلِكَ الرَّحِيقُ مِنْ تَسْنِيمٍ وَهُوَ عَيْنٌ فِي الْجَنَّةِ رَفِيعَةُ الْقَدْرِ وَقِيلَ التَّسْنِيمُ الْمَاءُ، وَفُسِّرَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ﴾ وَ ﴿عَيْنًا﴾ مَنْصُوبَةٌ بِفِعْلِ أَمْدَحُ مُقَدَّرًا، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ يَشْرَبُهَا الْمُقَرَّبُونَ صِرْفًا وَيُمْزَجُ لِلأَبْرَارِ، وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ الأَبْرَارُ هُمْ أَصْحَابُ الْيَمِينِ، وَالْمُقَرَّبُونَ هُمُ السَّابِقُونَ، وَقِيلَ يَشْرَبُ بِهَا (أَيْ يَتَلَذَّذُ بِهَا) الْمُقَرَّبُونَ وَهُمْ أَفْضَلُ أَهْلِ الْجَنَّةِ.
﴿إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُوا يَضْحَكُونَ﴾ قَوْلُهُ ﴿أَجْرَمُوا﴾ قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيُّ أَشْرَكُوا، ﴿كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ ءَامَنُوا﴾ يَعْنِي أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ مِثْلَ عَمَّارِ بنِ يَاسِرٍ الطَّيِّبِ الْمُطَيَّبِ وَبِلالٍ وَخَبَّاب وَغَيْرِهِمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ﴿يَضْحَكُونَ﴾ أَيْ عَلَى وَجْهِ السُّخْرِيَةِ وَالِاسْتِهْزَاءِ بِهِمْ.
﴿وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ﴾ أَيْ إِذَا مَرَّ الْمُؤْمِنُونَ بِهِمْ أَيِ بِالْكُفَّارِ يَتَغَامَزُونَ أَيْ يُشِيرُونَ أَيِ الْكُفَّارُ بِالْجَفْنِ وَالْحَاجِبِ اسْتِهْزَاءً بِالْمُؤْمِنِينَ.
﴿وَإِذَا انْقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُواْ فَكِهِينَ﴾ يَعْنِي إِذَا رَجَعَ الْكُفَّارُ إِلَى أَهْلِهِمْ رَجَعُوا يَتَفَكَّهُونَ مُتَلَذِّذِينَ بِذِكْرِ الْمُؤْمِنِينَ وَالضَّحِكِ مِنْهُمْ، وَفِي قِرَاءَةِ أَبِي جَعْفَرٍ، وَحَفْصٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَعَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ (فَكِهِينَ) بِغَيْرِ أَلِفٍ.
﴿وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ﴾ أَيْ أَنَّ الْكُفَّارَ يَقُولُونَ إِذَا رَأَوِا الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَّالُونَ لإِيـمَانِهِمْ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
﴿وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ﴾ يَعْنِي أَنَّ الْكُفَّارَ لَمْ يُوَكَّلُوا بِحِفْظِ أَعْمَالِ الْمُؤْمِنِينَ.
﴿فَالْيَوْمَ﴾ أَيْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴿الَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ﴾ أَيْ أَنَّ الَّذِينَ ءَامَنُوا يَضْحَكُونَ مِنَ الْكُفَّارِ ذَلِكَ الْيَوْمَ كَمَا ضَحِكَ الْكُفَّارُ مِنْهُمْ فِي الدُّنْيَا.
﴿عَلَى الأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ﴾ أَيْ فِي الْجَنَّةِ ﴿يَنْظُرُونَ﴾ إِلَى عَذَابِ الْكُفَّارِ وَمَا هُمْ فِيهِ مِنَ الْهَوَانِ وَالْعَذَابِ بَعْدَ الْعِزَّةِ وَالنَّعِيمِ.
﴿هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ﴾ أَيْ هَلْ جُوزِيَ الْكُفَّارُ وَأُثِيبُوا عَلَى اسْتِهْزَائِهِمْ بِالْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا؟ وَيَكُونُ الْجَوَابُ أَنْ نَعَمْ، قَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ وَهَذَا الِاسْتِفْهَامُ بِمَعْنَى التَّقْرِيرِ.