إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد:
الحمدُ لله ربِّ العالمين والصلاةُ والسلامُ على سيّدنا محمّدٍ الصادقِ الوعدِ الأمينِ وعلى إخوانِهِ النبيّينَ والمرسلينَ ورضيَ اللهُ عن أمهاتِ المؤمنينَ وألِ البيتِ الطاهرينَ وعنِ الخلفاءِ الراشدينَ أبي بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعليٍّ وعن الأئمةِ المهتدينَ أبي حنيفةَ ومالكٍ والشافعيِّ وأحمدَ وعن الأولياءِ و الصالحينَ.
يستحيل على النبي أن يصلي صلاة الجنازة على مشرك منافق في الإيمان وهو يعرف حقيقة أمره، فإن ما رواه البخاري وغيره من أن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الجنازة على شخص توفي، والرسول حسّـن فيه الظن ولكن ذاك في الحقيقة كافر منافق والرسول ما كان يعرف باطنه الخبيث، فهو دليل على أن الرسول لا يعلم إلا ما أعلمه الله به، فالله تعالى قال في كتابه الكريم (وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ) (التوبة 101).
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في شرح البخاري (أما جزم عمر بأنه منافق فجرى على ما كان يطلع عليه من أحواله، وإنما لم يأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بقوله (أي بقول عمر) وصلى عليه (أي على ذاك المنافق صلاة الجنازة) إجراء له على ظاهر حكم الإسلام كما تقدم تقريره (انظر إلى قول ابن حجر أن هذا هو المقرر)، واستصحاباً لظاهر الحكم، ولما فيه من إكرام ولده (أي ولد المنافق) الذي تحققت صلاحيته (أي تحقق صلاحه يعني ولد المنافق وهو أي الولد من الصحابة الكرام)، ومصلحة الاستئلاف لقومه (أي لقوم المنافق واعتقادهم حقية الإسلام والثبات عليه) ودفع المفسدة، ثم يقول الحافظ وبهذا التقرير يندفع الإشكال عما وقع في هذه القصة بحمد الله تعالى.
وليعلم أنه يستحيل على النبي أن يصلي صلاة الجنازة على مشرك منافق في الإيمان وهو يعرف حقيقة أمره ﻷن هذا تلاعب بالدين لا يجوز على رسول الله.
قال الإمام الكبير أبو بكر الجصاص في أصوله (إنه لا يجوز على النبيّ أن يستغفر للكفار، وأن من جوّز على النبي أن يستغفر للكفار فقد انسلخ من الدين، ذلك أنه معلوم أنه قد كان من دين النبي من أول ما بعثه الله إلى أن توفاه أنه دعا الناس إلى اعتقاد تخليد الكافر في النار، وأنه لم يجوّز قط غفران الكفر، ثم قال فمن جوّز على النبي جواز الاستغفار للكافر فهو خارج عن الملة) ومثله قال الزركشي في المعتبر.
وهذا الجصاص (توفي سنة 370 للهجرة) انتهت إليه رئاسة أصحاب أبي حنيفة وكان مشهوراً بالزهد، وصفه في الجواهر المضية في طبقات الحنفية بأنه الإمام الكبير الشأن.
ولزيادة البيان فقد قال الله تعالى في ذلك (وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ) (التوبة 84).
فهذه الآية نزلت في شأن عبد الله بن أبي بن سَلُول وصلاةِ النبيّ صلى الله عليه وسلم عليه بعد وفاته، وهي دليل على أن الرسول ما كان يعرف حقيقة شأن ذاك المنافق بل كان يحسّن الظن به.
فعبد الله بن أُبَي بن سلول رأس المنافقين في المدينة، تظاهر في مرض وفاته بأنه رجع عن النفاق وأظهرَ الندم وطلب قميص النبي صلى الله عليه وسلم ليُكَفَّن به، فاعتقد النبي صلى الله عليه وسلم إسلامَه، ظنَّه مسلما، لذلك عندما مات صلى عليه صلاة الجنازة.
النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلم تلك الساعة أن هذا الرجل ما زال على الكفر، فنزلت الآية تُبَيِّن أنه ما زال منافقًا، ويستحيل على النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي على مشرك ويستغفر له مع عِلمِهِ بكفره، قال الله تعالى (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ) (التوبة 113).
وقد تقدم كلام ابن حجر في ذلك أنه إجراء له على الظاهر وأن الرسول ظن أنه مات مسلماً، وبيان ذلك في ما قال ابن عطية الأندلسي في المحرر الوجيز (ومُحَال أن يصلي النبي على كافر، ولكنه راعى ظواهره من الإقرار ووكل سريرته إلى الله عزّ وجل……..إلى أن قال وصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم لموضع إظهاره الإيمان ومُحَال أن يصلي عليه وهو يتحقق كفره).