إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد: 

فضل العشر الأول من ذي الحجة

 

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله وعلى ءاله وصحبه ومن والاه وبعد، يقول الله تعالى (وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2)) (سورة الفجر) وأخرج البخاري من حديث ‏‏ابن عباس عن النبي ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏أنه قال (‏‏ما العمل في أيام أفضل منها في هذه قالوا ولا الجهاد، قال ولا الجهاد إلا رجلٌ خرج يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع بشيء)‏.

 

وأخرج الامام أحمد والترمذي وأبو داود وابن ماجه عن ‏ابن عباس قال قال رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏(ما من ‏‏أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام)، ‏يعني ‏‏أيام ‏العشر، ‏قالوا يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله، قال (ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجلٌ خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء).

 

وفي سنن الدارمي‏ ‏عن ‏ابن عباس ‏عن النبي ‏صلى الله عليه وسلم ‏قال (ما من عمل أزكى عند الله عز وجل ‏‏ولا أعظم أجرا من خير تعمله في عشر الأضحى ‏قيل ولا ‏الجهاد في ‏سبيل ‏‏الله ‏عز وجل، قال ولا الجهاد ‏‏في ‏سبيل ‏‏الله عز وجل إلا رجلٌ خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء).

 

وقد دلت هذه الأحاديث على أن العمل في أيامه أحب إلى الله من العمل في أيام الدنيا من غير استثناء شيء منها، وإذا كان العمل في أيام العشر أفضل وأحب إلى الله من العمل في غيره من أيام السنة كلها صار العمل فيه وإن كان مفضـولا أفضل من العمل في غيره وإن كان فاضلا، فعمل البر والإحسان فيها يزيد على ما سواه والأعمال الصالحة تزكو عند الله أكثر مما إذا عملت في غيرها، وقد روي في خصوص صيام أيامه وقيام لياليه وكثرة الذكر فيه أحاديث وآثار.

 

وفي حديث جابر في صحيحي أبي عوانة وابن حبان (ما من أيام أفضل عند الله من أيام عشر ذي الحجة).

 

ومن فضائل العشر من ذي الحجة أن الله تعالى أقسم به جملة وببعضه خصوصا، قال تعالى (وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2))، فالليالي العشر هي عشر ذي الحجة وهذا الصحيح الذي عليه جمهور المفسرين من السلف وغيرهم وهو الصحيح عن ابن عباس.

 

وأخرج أحمد والنسائي والبزار وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3)) قال إن العشر عشر الأضحى والوتر يوم عرفة والشفع يوم النحر.

 

ومن فضائله أيضا أنه من جملة الأربعين التي واعدها الله عز وجل لموسى عليه السلام قال الله تعالى (وَوَاعَدْنَا مُوسَىٰ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) سورة الأعراف 142.

 

فقد روى عبد الرزاق في المصنف عن مجاهد قال (ما من عمل في أيام السنة أفضل منه في العشر من ذي الحجة وهي العشر التي أتمها الله لموسى عليه السلام).

 

ومن فضائله أنه خاتمة الأشهر المعلومات أشهر الحج التي قال الله فيها (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ)  سورة البقرة 197 وهي شوال وذو القعدة وعشرٌ من ذي الحجة.

 

ومن فضائله أنه الأيام المعلومات التي شرع الله ذكره فيها على ما رزق من بهيمة الأنعام، يقول الله تعالى (لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ) سورة الحج 28.

 

وجمهور العلماء على أن هذه الأيام المعلومات هي عشر ذي الحجة، منهم ابن عمر وابن عباس والحسن وعطاء ومجاهد وعكرمة وقتادة والنخعي وهو قول أبي حنيفة والشافعي وأحمد في المشهور عنه.

 

قال الحافظ ابن بطال المالكي (وقد اختلف العلماء فى الأيام المعلومات فقال بقول ابن عباس أنها أيام العشر النخعى وبه قال الشافعى وقال وفيها يوم النحر وروى عن على وابن عمر أن المعلومات يوم النحر ويومان بعده وبه قال مالك، قال الطحاوى وإليه أذهب لقوله تعالى (ويذكروا اسم الله فى أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام) (الحج 28) وهى أيام النحر).

 

ويختص عشر ذي الحجة في حق الحاج بأنه زمن سوقهم للهدي الذي به يكمل فضل الحج ويأكلون من لحومه في آخر العشر وهو يوم النحر، وأفضل سوق الهدي من الميقات، ويشعر ويقلد (تقليد البدنة أن يعلق في عنقها أو رجلها شيء ليعلم أنها هدي) عند الإحرام وتقارنه التلبية وهي من الذكر لله في الأيام المعلومات، فأما أهل الأمصار فإنهم يشاركون الحاج في عشر ذي الحجة، في الذكر وإعداد الهدي فأما إعداد الهدي فإن العشر تعد فيه الأضاحي، كما يسوق أهل الموسم الهدي، فإن من دخل عليه العشر وأراد أن يضحي فلا يأخذ من شعره ولا من أظفاره شيئا كما روت ذلك أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم، خرج حديثها مسلم وأخذ بذلك الشافعي وأحمد وعامة فقهاء الحديث، ولفظ الحديث ‏عن أم سلمة ‏أن النبي ‏صلى الله عليه وسلم ‏قال‏ (‏إذا رأيتم هلال ذي الحجة وأراد ‏ أحدكم ‏أن يضحي ‏ فليمسك عن شعره وأظفاره) وفي لفظ في مسلم عن ‏أم سلمة ‏أن ‏النبي ‏‏صلى الله عليه وسلم‏ ‏قال (إذا دخلت العشر وأراد أحدكم ‏أن يضحي ‏فلا ‏‏يمس ‏من شعره وبشره شيئا)، وأما مشاركتهم لهم في الذكر في الأيام المعلومات فإنه يشرع للناس كلهم الإكثار من ذكر الله في أيام العشر خصوصا، ففي مسند الإمام أحمد ‏عن ‏ ابن عمر ‏عن النبي ‏صلى الله عليه وسلم قال (ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه العمل فيهن ‏من ‏‏هذه ‏‏الأيام العشر فأكثروا فيهن ‏‏من ‏التهليل والتكبير والتحميد).

 

وجاء في شَرْح صَحِيح مُسْلِمِ لِلقَاضِى عِيَاض المُسَمَّى إِكمَالُ المُعْلِمِ بفَوَائِدِ مُسْلِم، باب نهى من دخل عليه عشر ذى الحجة وهو مريد التضحية، أن يأخذ من شعره أو أظفاره شيئاً، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِى عُمَرَ المَكِّىُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ المُسَيّبِ يُحَدِّثُ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ؛ أَنَّ النَّبِىَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (إِذَا دَخَلتِ العَشْرُ، وَأَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّى، فَلا يَمَسَّ مِنْ شَعَرِهِ وَبَشَرِهِ شَيْئًا).

وقوله (إذا دخل العشر، وأراد أحدكم أن يضحى، فلا يمس من شعر بشره شيئاً) وفى الرواية الأخرى (وعنده أضحية يريد أن يضحى) وفى الرواية الأخرى (من كان له ذبح فلا يأخذن شعراً، ولا يقلمن ظفراً) وفى الحديث الآخر (حتى يضحى) وقول ابن المسيب هذا حديث قدسى وترك وذكر الحديث الذبح، بالكسر، الكبش الذى يذبح، قال الله تعالى (وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) (1).

 

قال الإمام (أي المازري) مذهبنا أن هذا الحديث لا يلزم العمل به، واحتج أصحابنا بقول عائشة رضى الله عنها كان النبى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يهدى من المدينة فاختل قلائد هديه، ثم لا يجتنب شيئاً مما يجتنب المحرم وظاهر هذا الإطلاق أنه لا يحرم تقليم الأظفار، ولا قص الشعر، ومذهب ربيعة وأحمد وإسحاق وابن المسيب المنع؛ أخذاً بالحديث المتقدم، ويرون أن النص على ما ذكر فيه أولى من التمسك بالإطلاق الذى وقع من لفظ عائشة رضى الله عنها، ومذهب الشافعى حمله على الندب، وحكى عن مالك، ورخص فيه أصحاب الرأى.

قال القاضى: احتج بهذا من لم يوجب الأضحية لقوله (وأراد أن يضحى) وإسنادها إلى إرادته وهذا لا يلزم، وقد تقدم الكلام عليه قبل، وأن مثله قد يستعمل فى الواجب، وقال الليث قد جاء هذا الحديث وأكثر الناس على خلافه، قال الطحاوى ولما رأينا الجماع الذى يفسد الحج لا يحرم على من دخل عليه غير ذلك، ووجه الندب لما فى الحديث التشبه بالحاج) انتهى كلام القاضي.

 

وذكر البخاري في صحيحه ‏‏باب ‏فضل العمل في أيام التشري (وقال ‏‏ابن عباس ‏‏واذكروا الله ‏‏في أيام معلومات، أيام العشر، والأيام المعدودات أيام التشريق، ‏‏وكان ‏ابن عمر ‏وأبو هريرة ‏يخرجان إلى السوق ‏في أيام العشر ‏يكبران ويكبر الناس بتكبيرهما).