إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد: 

قال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (كُلُّ شَىْءٍ بِقَدَرٍ حَتَّى الْعَجْزُ وَالْكَيْسُ) رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالْبَيْهَقِىُّ وَغَيرُهُمَا، الْعَجْزُ الْمُرَادُ بِهِ الْبَلادَةُ، وَالْكَيْسُ هُوَ الْفَطَانَةُ وَالذَّكَاءُ.
 
يقول الحاكم رحمه اللهُ تعالى الذي هو شيخُ البيهقي سمعت أبا الحسن عبدَ اللهِ بنَ محمدَ بنِ علي بنِ الحسنِ بنِ جعفر بنِ موسى بنِ جعفر المعروف بمدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الروضة يقول سمعت أبي يذكُر عن آبائه أن عليَّ بنَ موسى الرضَى كان يقعدُ في الرّوضة وهو شابٌ ملتحف بمَطرَفِ خَزٍّ فيسأله النّاس ومشايخ العلماءِ في المسجِد فَسُئل عن القدَر فقال قال اللهُ عزّ وجل عَزّ مِن قائل (إنَّ المُجْرِمِينَ فِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ يَوْمَ يُسْحَبُونَ في النّارِ على وجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ إنّا كُلَّ شَىءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) (سورة القمر ءاية 47 – 48 – 49) ثمّ قال الرّضَى كان أبي يذكر عن آبائه أن أمير المؤمنين عليَّ بن أبي طالب كان يقول (إنّ اللهَ خَلَقَ كلَّ شىءٍ بقَدر حتّى العَجز والكَيس وإليهِ المشِيئة وبِه الحَولُ والقُوَّة) هذا الكلام عظيم يحوي معاني راقية كثيرة، يقول سيدُنا عليّ رضي اللهُ عنه إنّ اللهَ خلَقَ كلَّ شىءٍ بقدَر أي بتقديره الأزليِّ حتّى العَجز والكيس، العَجزُ هو الضَّعف في الفَهمِ والإدراك، أما الكيسُ فهو الذكاء والفطانة، يقول كلُّ ذلك بتقدير الله تبارك وتعالى ما استثنى شيئاً قال (كلُّ شىءٍ بقدر حتّى العجز والكيس)، ما قال الطاعاتُ بقدر الله والمعاصي ليست بقدَر الله ما استثنى بل عمّ وشمل، قال وإليه المشيئة معناه أنّ الله تباركَ وتعالى له المشيئَة الشّامِلَة العامّة الأزليّة الأبدية التي لا تتحوّل ولا تتغيَّر شاء بها حصولَ كلِّ الممكنات الحادثات من أجرام وأعمال العباد حركاتهم وسكناتِهم وتطوّرات نفوسِهم، له هذه المشيئة التي هي سابقةٌ على مشيئة العباد، مشيئةُ الله سبقت مشيئة العباد، سبقت مشيئتُه المشيئات كلَّها.