إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد: 

قال الله العلي العظيم في محكم كتابه (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ ءايَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) (سورة الإسراء آية 1).
 
سَبِّحِ اللهَ تعالى أي بَعِّدْهُ ونَزِّهْهُ عما لا يليقُ بهِ مِن شَبَهِ المخلوقاتِ وصفاتِهم كالحجمِ اللطيفِ كالنورِ والهواءِ والظَّلام، والحجمِ الكثيفِ كالبَشَرِ والشجرِ والحجرِ وصفاتِها كالألوانِ والحرَكاتِ والسَّكَناتِ، كلُّ ذلك نَزَّهَ اللهُ نفسَه عنه بقوله (ليسَ كَمِثْلِهِ شىءٌ) سورة الشورى 11.
 
(سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ) الآية، أي بمحمدٍ صلواتُ ربي وسلامُه عليه ولقد قيل في تفسيرها لَمَّا وصلَ حبيبُنا محمدٌ صلى الله عليه وسلم إلى الدَّرَجاتِ العاليةِ والمراتبِ الرفيعةِ في المعراجِ أوحَى اللهُ سبحانه إليه (يا محمدُ بماذا أُشَرِّفُك)، قال بأنْ تَنْسُبَنِي إلى نَفْسِكَ بالعُبودِيَّة فأنزلَ اللهُ قولَه (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ) الآية.
 
معناهُ أنَّ هذه النسبةَ نسبة النبيِّ إلى ربِّه بوصفِ العبوديةِ غايةُ الشَّرفِ للرسولِ صلى الله عليه وسلم لأنَّ عبادَ الله كثيرٌ فَلِمَ خَصَّهُ في هذه الآيةِ بالذِّكر؟ ذلك لِتَخْصِيصهِ بالشَّرَفِ الأعظَم.
اللهمّ انفعنَا ببركاتِ هذا النبيِّ العظيمِ واحشُرْنَا تحتَ لوائه يا أرحمَ الراحمين.
 
وأما قوله تعالى (الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ) قيل لأنه مَقرُّ الأنبياءِ ومهبِطُ الملائكة، إنه الأقصى المباركُ إخوةَ الإيمان، إنه الأقصى الأسيرُ ردَّهُ الله إلينا.
 
(سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ ءايَاتِنَا) الآية، أي مَا رأى تلكَ الليلة منَ العجائبِ والآيات التي تدلُّ على قُدرةِ الله عزّ وجلّ، فلقدْ رأَى صلى الله عليه وسلم وهو في طريقِه إلى بيتِ المقْدِسِ الدُّنْيَا بصورةِ عجوز.
 
ورأى شيئًا مُتنحِّيًا عنِ الطريقِ وهو إبليسُ وكان مِنَ الجِنِّ المؤمنين في أولِ أَمرِه ثمَّ كَفَرَ لاعتراضِهِ على الله.
 
وشَمَّ صلى الله عليه وسلم رائحةً طيبةً عَطِرةً مِن قَبرِ ماشطةِ المؤمنةِ الصالحةِ التي ثَبتتْ على الإسلامِ في وَجهِ الطَّاغيةِ الظالمِ فرعون فقَتَلَها وأولادَها وجُمِعَت عظامُها وعِظامُ أولادِها في قبرٍ واحِد، فرسولُ اللهِ شَمَّ مِن قبرِها رائحةً طيِّبة كأنها تقول السلامُ عليك يا محمدُ يا رسولَ اللهِ، أنا على دينِك يا محمد.
 
ورأى قومًا يزرَعون ويحصدون في يومين فقال له جبريل هؤلاء المجاهدونَ في سبيل الله.
 
ورأى أُناسًا تُقرضُ ألسنتُهم وشِفاهُهُم بمقاريضَ من نارٍ قالَ له جبريل هؤلاءِ خطباءُ الفتنةِ، يعني الذين يخطبونَ للشَّرِّ والفتنةِ أي يدعونَ الناسَ إلى الضلال والفساد والغَشِّ والخيانة.
 
ورأى ثورًا يخرجُ من منفذٍ ضَيِّقٍ ثم يريدُ أن يعودَ فلا يستطيعُ أن يعودَ إلى هذا المنفذِ فقال له جبريل هذا الذي يتكلمُ بالكلمةِ الفاسدةِ التي فيها ضررٌ على الناس وفتنةٌ ثم يريدُ أن يردَّها فلا يستطيع .
 
ورأى أُناسًا يسرحُونَ كالأنعامِ على عوراتهم رقاعٌ (سُتر صغيرة) قال له جبريل هؤلاء الذين لا يُؤدّون الزكاة.
 
ورأى قومًا ترضخُ رؤوسُهم أي تكسر رؤوسُهم ثم تعودُ كما كانت فقال جبريل هؤلاء الذين تتثاقلُ رؤوسُهم عن تأديةِ الصلاة الواجبة.
 
ورأى قَومًا يتنافسونَ على اللحمِ المنتِنِ ويتركونَ اللحمَ الجيِّدَ المشرَّحَ فقال جبريل هؤلاء أناسٌ مِن أُمَّتِكَ يتركونَ الحلالَ فلا يطعَمونَه ويأتونَ الحرام الخبيث فيأكلونه وهمُ الزّناة.
 
ورأى أناسًا يشربونَ من الصديدِ الخارج من الزناة، قال له جبريل هؤلاء شاربو الخمر المحرم في الدنيا.
 
ورأى قومًا يخمشُونَ وجوهَهم وصدورَهم بأظفارٍ نحاسيةٍ قال له جبريل هؤلاء الذين كانوا يغتابونَ الناس.
 
والغيبةُ من أشدِّ أسبابِ عذابِ القبر، هي والنميمةُ وتركُ الاستنْزاهِ من البول، وغيبة الأتقياءِ منَ الكبائر.
 
اللهمّ احفظنا من الكفرِ والكبائر والصغائر وأعِدْ علينا ذكرى الإسراء والمعراج وقد تحررّ الأقصى وتحرّر كلُّ شبرٍ مُحتلٍّ إنك على كلِّ شىء قدير.