إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد:
يَجِبُ عَلَى كَافَّةِ الْمُكَلَّفِينَ الدُّخُولُ فِي دِينِ الإِسْلامِ وَالثُّبُوتُ فِيهِ عَلَى الدَّوَامِ وَالْتِزَامُ مَا لَزِمَ عَلَيْهِ مِنَ الأَحْكَامِ
الْمُكَلَّف هُوَ الْبَالِغُ الْعَاقِلُ الَّذِي بَلَغَتْهُ دَعْوَةُ الإِسْلامِ أَيْ مَنْ بَلَغَهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَكَانَ صَحِيحَ السَّمْعِ لَمْ يَكُنْ أَصَمَّ فَهَذَا هُوَ الْمُكَلَّفُ الَّذِي هُوَ مُلْزَمٌ بِأَنْ يُسْلِمَ وَيَعْمَلَ بِشَرِيعَةِ الإِسْلامِ أَيْ أَنْ يُؤَدِّيَ الْوَاجِبَاتِ وَيَجْتَنِبَ الْمُحَرَّمَاتِ، أَمَّا مَنْ مَاتَ قَبْلَ الْبُلُوغِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ مَسْئُولِيَّةٌ فِي الآخِرَةِ، وَكَذَلِكَ مَنْ جُنَّ قَبْلَ الْبُلُوغِ وَاتَّصَلَ جُنُونُهُ إِلَى مَا بَعْدَ الْبُلُوغِ فَمَاتَ وَهُوَ مَجْنُونٌ فَلَيْسَ مُكَلَّفًا (لَوْ كَفَرَ قَبْلَ الْبُلُوغِ ثُمَّ جُنَّ قَبْلَهُ ثُمَّ اتَّصَلَ جُنُونُهُ مِنْ قَبْلِ الْبُلُوغِ إِلَى مَا بَعْدَهُ فَمَاتَ وَهُوَ مَجْنُونٌ هَذَا نَاجٍ مَا عَلَيْهِ عَذَابٌ، وَأَمَّا مَنْ كَفَرَ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَجُنَّ وَاسْتَمَرَ جُنُونُهُ إِلَى أَنْ مَاتَ فَهَذَا كَافِرٌ مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ) انْظُرْ شَرْحَ مُسْلِمٍ لِلنَّوَوِيِّ، وَكَذَلِكَ الَّذِي عَاشَ بَالِغًا وَلَمْ تَبْلُغْهُ دَعْوَةُ الإِسْلامِ أَيْ أَصْلُ الدَّعْوَةِ.
وَلَيْسَ شَرْطًا لِبُلُوغِ الدَّعْوَةِ أَنْ تَبْلُغَهُ تَفَاصِيلُ عَقَائِدِ الإِسْلامِ بِأَدِلَّتِهَا بَلْ يَكُونُ مُكَلَّفًا بِمُجَرَّدِ أَنْ يَبْلُغَهُ أَصْلُ الدَّعْوَةِ، وَلا يَكُونُ لَهُ عُذْرًا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فَكَّرَ فِي حَقِيَّةِ الإِسْلامِ بُرْهَةً مِنَ الزَّمَنِ لِأَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا كَانَ يُمْهِلُ الْكُفَّارَ بُرْهَةً مِنَ الزَّمَنِ لِيُفَكِّرُوا بَعْدَ أَنْ يُبَلِّغَهُمْ دَعْوَةَ الإِسْلامِ فِي حَقِّيَّتِهَا يَوْمًا وَلا يَوْمَيْنِ وَلا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ بَلْ كَانَ يَعْتَبِرُ ذَلِكَ كَافِيًا فِي انْتِفَاءِ الْعُذْرِ عَنْهُمْ إِنْ لَمْ يَتَّبِعُوا الإِسْلامَ وَكَانَ يَكْتَفِي بِأَنْ يُسْمِعَ الْعَرَبَ الْمُشْرِكِينَ فِي الْمَوْسِمِ أَيْ مَوْسِمِ الْحَجِّ وَغَيْرِهِ حِينَ يَجْتَمِعُونَ مِنْ نَوَاحٍ شَتَّى أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ كَانَ يَمُرُّ فِيهِمْ مُرُورًا، ثُمَّ لَمَّا جَاءَ الإِذْنُ بِالْقِتَالِ كَانَ يُحَارِبُ كُلَّ مَنِ اسْتَطَاعَ مُحَارَبَتَهُ مِنْ كُلِّ أُولَئِكَ الَّذِينَ بَلَّغَهُمْ بَعْدَ تَجْدِيدِ الدَّعْوَةِ أَوْ مِنْ غَيْرِ تَجْدِيدٍ إِلَّا مَنْ بَدَتْ لَهُ مَصْلَحَةٌ فِي مُصَالَحَتِهِمْ لِمُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ لا لِلأَبَدِ، لِذَلِكَ قَالَ الْعُلَمَاءُ يُسْتَحَبُّ تَجْدِيدُ الدَّعْوَةِ بِلا إِيْجَابٍ أَمَامَ الْقِتَالِ، فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي صَحِيحَيْهِمَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاتَلَ بَنِي الْمُصْطَلِقِ وَهُمْ غَارُّونَ أَيْ لا عِلْمَ لَهُمْ فَقَتَلَ مُقَاتِلَتَهُمْ وَسَبَى نِسَاءَهُمْ وَذَرَارِيَّهُمْ فَلَوْ كَانَ يُشْتَرَطُ لِجَوَازِ مُقَاتَلَةِ الْكُفَّارِ أَنْ يُعْطَوْا مُهْلَةً لِلتَّفْكِيرِ فِي صِحَّةِ الإِسْلامِ وَحَقِّيَّتِهِ فَالرَّسُولُ كَانَ أَوْلَى بِذَلِكَ لَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُمْهِلُهُمْ بُرْهَةً لِلتَّفْكِيرِ بَلِ اكْتَفَى لِقِتَالِهِمْ بِأَنَّهُ كَانَ بَلَّغَهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ أَصْلَ الدَّعْوَةِ.
فَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ سَمِعَ فِي الأَذَانِ الشَّهَادَتَيْنِ وَهُوَ يَفْهَمُ الْعَرَبِيَّةَ فَهُوَ مُكَلَّفٌ، فَإِنْ مَاتَ وَلَمْ يُسْلِمِ اسْتَحَقَّ عَذَابَ اللَّهِ الْمُؤَبَّدَ فِي النَّارِ. وَلا يَحْصُلُ شُكْرُ الْمُنْعِمِ الْخَالِقِ إِلَّا بِالإِسْلامِ أَيْ إِفْرَادِهِ بِالْعِبَادَةِ وَالإِيـمَانِ بِالرَّسُولِ الَّذِي أَرْسَلَهُ لِيُعَلِّمَ النَّاسَ مَا يُحِبُّ اللَّهُ وَمَا يَكْرَهُ اللَّهُ، وَلا يَحْصُلُ شُكْرُ الْمُنْعِمِ الْخَالِقِ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ إِطْعَامِ الْمَسَاكِينِ وَإِغَاثَةِ الْمَكْرُوبِينَ وَنَحْوِ ذَلِكَ (أَيْ مِنْ دُونِ الإِيـمَانِ).
ثُمَّ إِنَّ نِيَّةَ الثُّبُوتِ عَلَى الإِسْلامِ ضَرُورِيَّةٌ أَيْ أَنْ يَخْلُوَ قَلْبُهُ عَنْ أَيِّ عَزْمٍ عَلَى تَرْكِ الإِسْلامِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ أَوْ تَرَدُّدٍ فِي ذَلِكَ فَإِنَّ مَنْ نَوَى الْكُفْرَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ كَفَرَ فِي الْحَالِ، قَالَ الشَّيْخُ زَكَرِيَّا الأَنْصَارِيُّ فِي شَرْحِ الرَّوْضِ فِي بَابِ الرِّدَّةِ (أَوْ عَزَمَ عَلَى الْكُفْرِ أَوْ عَلَّقَهُ بِشَىْءٍ كَقَوْلِهِ إِنْ هَلَكَ مَالِي أَوْ وَلَدِي تَهَوَّدْتُ أَوْ تَنَصَّرْتُ أَوْ تَرَدَّدَ هَلْ يَكْفُرُ أَوْ لا لِأَنَّ اسْتِدَامَةَ الإِيـمَانِ وَاجِبَةٌ فَإِذَا تَرَكَهَا كَفَرَ). اهـ