إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد:

أَعْظَمُ حُقُوقِ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ
 
اعْلَمْ أَنَّ أَعْظَمَ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ هُوَ تَوْحِيدُهُ تَعَالَى وَأَنْ لا يُشْرَكَ بِهِ شَىْءٌ، لِأَنَّ الإِشْرَاكَ بِاللَّهِ هُوَ أَكْبَرُ ذَنْبٍ يَقْتَرِفُهُ الْعَبْدُ وَهُوَ الذَّنْبُ الَّذِي لا يَغْفِرُهُ اللَّهُ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ، قَالَ تَعَالَى ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَآءُ﴾ [سُورَةَ النِّسَاء 48].
 
مَعْرِفَةُ اللَّهِ تَعَالَى مَعَ إِفْرَادِهِ بِالْعِبَادَةِ أَيْ نِهَايَةِ التَّذَلُّلِ هُوَ أَعْظَمُ حُقُوقِ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ، وَأَكْبَرُ ذَنْبٍ يَقْتَرِفُهُ الْعَبْدُ هُوَ الْكُفْرُ وَهُوَ عَلَى نَوْعَيْنِ (كُفْرٌ شِرْكٌ وَكُفْرٌ غَيْرُ شِرْكٍ) فَكُلُّ شِرْكٍ كُفْرٌ وَلَيْسَ كُلُّ كُفْرٍ شِرْكًا، لِذَلِكَ كَانَ أَعْظَمُ حُقُوقِ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا.
 
وَالْكُفْرُ أَكْبَرُ الظُّلْمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ﴿وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [سُورَةَ الْبَقَرَة 254] فُظُلْمُ الْكَافِرِ بِكُفْرِهِ أَعْظَمُ مِنْ قَتْلِ الْمُسْلِمِ ءَالافَ الآلافِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِ اسْتِحْلالٍ لِقَتْلِهِمْ.
 
وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يَغْفِرُ كُلَّ الذُّنُوبِ لِمَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ الْمُسْلِمِينَ الْمُتَجَنِّبِينَ لِلْكُفْرِ بِنَوْعَيْهِ الإِشْرَاكِ بِاللَّهِ تَعَالَى الَّذِي هُوَ عِبَادَةُ غَيْرِهِ وَالْكُفْرِ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ إِشْرَاكٌ كَتَكْذِيبِ الرَّسُولِ وَالِاسْتِخْفَافِ بِاللَّهِ أَوْ بِرَسُولِهِ مَعَ تَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَنْزِيهِهِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ (إِنَّ اللَّهَ لَيَغْفِرُ لِعَبْدِهِ مَا لَمْ يَقَعِ الْحِجَابُ) قَالُوا وَمَا وُقُوعُ الْحِجَابِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ (أَنْ تَمُوتَ النَّفْسُ وَهِيَ مُشْرِكَةٌ) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ وَصَحَّحَهُ.
 
فَالْكُفْرُ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِهِ هُوَ الذَّنْبُ الَّذِي لا يَغْفِرُهُ اللَّهُ أَيْ لِمَنِ اسْتَمَرَّ عَلَيْهِ إِلَى الْمَوْتِ أَوْ إِلَى حَالَةِ الْيَأْسِ مِنَ الْحَيَاةِ بِرُؤْيَةِ مَلَكِ الْمَوْتِ وَمَلائِكَةِ الْعَذَابِ أَوْ إِدْرَاكِ الْغَرَقِ بِحَيْثُ أَيْقَنَ بِالْهَلاكِ وَنَحْوِهِ فَذَاكَ مُلْحَقٌ بِالْمَوْتِ.
 
فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْكُفْرَ لا يُغْفَرُ إِلَّا بِالإِسْلامِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَكُونُ مَقْبُولًا فِيهِ، فَمَنْ أَسْلَمَ بَعْدَ الْوَقْتِ الَّذِي يُقْبَلُ فِيهِ فَلا يَمْحُو إِسْلامُهُ كُفْرَهُ، فَالْكُفْرُ هُوَ أَعْظَمُ الذُّنُوبِ وَبَعْدَهُ قَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ﴾ [سُورَةَ الْبَقَرَة 191] أَيِ الشِّرْكُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ، فَالشِّرْكُ هُوَ أَعْظَمُ الظُّلْمِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [سُورَةَ لُقْمَان 13]، وَقَوْلِهِ ﴿وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ وَمَعْنَاهُ أَكْبَرُ الظُّلْمِ هُوَ الْكُفْرُ.