
بِسمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ
الحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ،
أَمَّا بَعدُ:
المقدمة
ـــــــ
يقول الله تعالى
﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾
سورة الإسراء: 36
ــــــــــ
ـــــــ
وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ
منْ أَفْتَى النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ لَعَنَتهُ مَلَائِكَةُ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ
رواه السيوطي
ــــــــــ
تفاصيل القصة
كَانَ لِتُومَا الحَكِيمِ (الطَّبِيبِ) أَبٌ طَبِيبٌ وَلَكِنَّهُ مَضَى إِلَى قَبْرِهِ وَمَاتَ، فَوَرِثَ تُومَا مِنْهُ كُتُبَ الطِّبِّ، وَصَارَ يُعَالِجُ النَّاسَ بِزَعْمِهِ بِنَاءً عَلَىْ مَا يَقْرَأُ مِنَ الكُتُبِ، وَقَدْ وَقَعَ التَّصْحِيفُ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ، فَكَانَ يَقْرَأُ: الحَيَّةُ السَّوْدَاءُ شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ، بَدَلَ: الحَبَّةُ السَّوْدَاءُ شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ دَاءٍ، فَمَاتَ بِسَبَبِهِ خَلقٌ كَثِيرٌ.
ضرب العلماء المثل بتوما في شدة الجهل
أَلَّفَ أَبُو حَيَّانَ الأَنْدَلُسِيُّ أَبْيَاتًا فِيهِ صَارَتْ مَضْرِبَ مَثَلٍ يَتَدَاوَلُهَا العُلَمَاءُ فِي كُتُبِهِمْ، قَالَ:
يَظُنُّ الْغُمْرُ أَنَّ الْكُتْبَ تَهْدِي
أَخَا جَهلٍ لِإِدرَاكِ العُلُومِ
وَمَا يَدْرِي الْجَهُولُ بِأَنَّ فِيْها
غَوَامِضَ حَيَّرَتْ عَقْلَ الفَهِيْمِ
إِذَا رُمْتَ الْعُلُومَ بِغَيْرِ شَيْخٍ
ضَلَلْتَ عَنِ الْصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيْمِ
وَتَلْتَبِسُ الأُمُورُ عَلَيْكَ حَتَّى
تَكُونَ أَضَّلَ مِنْ تُوْمَا الْحَكِيْمِ
وَمَعنَى الغُمْرُ: الجُهَّالُ االَّذِينَ لَم يُجَرِّبُوا الأُمُورَ، وَرُمْتَ: طَلَبْتَ.
وَمِمَّا قِيلَ فِيهِ أَيضًا:
قَالَ حِمَارُ الحَكِيمِ تُومَا
لَوْ أَنْصَفُونِي لَكُنْتُ أَرْكَبْ
لِأَنَّنِي جَاهِلٌ بَسِيطٌ
وَصَاحِبِي جَاهِلٌ مُرَكَّبْ
العبر المستقاة من هذه القصة
قال الفقهاء: لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِاَلطِّبِّ لِعِلَاجِ المَرَضِ لَمِنْ لَيْسَ لَهُ خُبْرَةٌ وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الأَطِبَّاءِ.
قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ
مَنْ تَطَبّبَ وَلا يُعْلَمُ مِنْهُ طِبٌّ فَهُوَ ضَامِنٌ
رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه والحاكم
مَعْنَاهُ يَضمَنُ مَا أَتلَفَهُ، فَإِذَا أَتلَفَ حَيَاةَ إِنسَانٍ أَي قَتَلَهُ بِسَبَبِ خَطَأِهِ أَو أَتلَفَ جُزءًا مِنهُ ضَمِنَ، وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ تَعَلُّمُ الطِّبِّ وَنَحْوِهِ بِالِاعْتِمَادِ عَلَى مُطَالَعَةِ الكُتُبِ، وَأَشَدُّ مِنْ هَذَا مَا يَكُونُ فِي عِلْمِ اَلدِّيْنْ لِأَنَّ خَطَرَ اَلْإِفْتَاءِ بِلَا عِلْمٍ فِي أُمُورِ الدِّينِ أَعْظَمُ خَطَرًا وَأَشَدُّ، لِأَنَّ الفَتْوَى الوَاحِدَةَ بِلَا عِلْمٍ يَكُونُ صَاحِبُهَا مَلْعُونًا مُسْتَحِقًّا لِعَذَابِ اللهِ فِي جَهَنَّمَ.
قَالَ اللهُ تعالى
﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَٰذَا حَلَالٌ وَهَٰذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ﴾
سورة النحل: 116
قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ
مَنْ كَذَبَ عَليَّ مُتَعَمَّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ اَلنَّارِ
رواه مسلم
وَقَدْ قَالَ العُلَمَاءُ: الَّذِي يَعْتَمِدُ عَلَى مُطَالَعَةِ كُتُبِ عِلَمِ الدِّينِ يَطْلُعُ ضَالًّا مُضِلًّا.
الخاتمة
أَمْرُ الدِّيْنِ لَيْسَ فِكْرَةً مُسْتَحْدَثَةً أَوْ شِعَارًا يَرْفَعُهُ البَعْضُ لِأَغْرَاضِهِمُ الدُّنْيَوِيَّةِ، بَلْ أَمْرُ الدِّيْنِ يَكُوْنُ بِاقْتِفَاءِ آثَارِ أُوْلَئِكَ الْأَكَابِرِ وَالْتِزَامِ طَرِيْقِهِمْ وَمَا كَانُوْا عَلَيْهِ، وَهَذَا يَكُونُ بِمَعْرِفَةِ مَا جَاءَ بِهِ سَلَفُ هَذِهِ الْأُمَّةِ نَقْلًا عَنْ رَسُوْلِ اللهِ ﷺ وَأَصْحَابِهِ الْكِرَامِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ.
وَمِن مَنهَجِ السَّلَفِ الصَّالِحِ أَنَّهُم لَا يَتَسَرَّعُوْنَ فِي الْفَتْوَىْ بَلْ يَخَافُوْنَ مِنْ ذَلِكَ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللهُ أَنَّهُ قَالَ: (أَدْرَكْتُ عِشْرِينَ وَمِائَةً مِنَ الْأَنْصَارِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ﷺ يُسْأَلُ أَحَدُهُمْ عَنِ الْمَسْأَلَةِ فَيَرُدُّهَا هَذَا إِلَى هَذَا وَهَذَا إِلَى هَذَا حَتَّى تَرْجِعَ إِلَى الْأَوَّل)، وَرَوَى ابنُ سَعدٍ فِي الطَّبَقَاتِ عَنِ ابنِ مَسعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: (مَن أَفتَى النَّاسَ فِي كُلِّ مَا يَستَفتُونَهُ فَهُوَ مَجنُونٌ)، وَعَنِ الشَّعْبِيِّ وَالْحَسَنِ وَأَبِيْ حَصِيْنٍ التَّابِعِيِّيْنَ رَحِمَهُمُ اللهُ قَالُوْا: إِنَّ أَحَدَكَمْ لَيُفْتِي فِي المَسْأَلَةِ وَلَوْ وَرَدَتْ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لَجَمَعَ لَهَا أَهْلَ بَدْرٍ.
وَاللهُ تَعَالَى أَعلَمُ وَأَحكَمُ، وَالحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ.
المصادر
هَذِهِ المَسَائِلُ مَجمُوعَةٌ وَمُلَخَّصَةٌ مِن:
- القُرءَانِ الكَرِيمِ.
- السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ.
- صَحِيحِ مُسلِمٍ.
- سُنَنِ النَّسَائِيِّ.
- مُستَدرَكِ الحَاكِمِ.
- طَبَقَاتِ ابنِ سَعدٍ الكُبرَى.
- الْمَدْخَلِ إِلَى السُّنَنِ لِلْبَيْهَقِيِّ.
- الْفَقِيْهِ وَالْمُتَفَقِّهِ لِلْخَطِيْبِ الْبَغْدَادِيِّ.